|
يا للّه ، ما أجمل طيف الخيال الحالم ، وما أبهى ليل الشتاء الساجي ، يوم
أن يجترَّ الفؤاد حديثاً من الذكرى ، أو حنيناً من الماضي ، ويزداد الفؤاد
الصادق ولوعاً بحديث الأشواق ، يوم تحلو مؤانسة الأحباء ، ولقاء البعداء
القرباء ، بعد نأي وفراق ، وبكاء واحتراق ، اكتوى بلهبه القلب ، وحكى عن حبّه
الحب .
كيف لا ؟ والأعياد قد أشرعت أبوابها ، والقلوب قد سامرت أحبابها ، عندئذٍ قفز
الى خاطري المكدود ، ما سطره مالئ الدنيا و شاغل الناس ( أبو الطيب المتنبي )
يوم أن قال ، وأغنى عن كلّ مقالٍ ما قال :
عيدٌ بأيّة حالٍ عدتَ يا عيـدُ ؟ = بما مضى أم
بأمرٍ فيك تجديدُ ؟
أما الأحبة فالبيـداءُ دونهـم = فليت دونك بِيْداً دونها بيِْـدُ !!
إنها مشاعر الوجد المحرقة ، وحروف الوفاء المعبر
، وتباريح الرحيل الأليم ، وعبرة البكاء الخانقة .
عجباً لك أيها العيد ،
نقف أمامك بشموخ ، ونحن نشعر بذل خانق ، ونملأ وقتك بالإبتسامات ، لكنها لا
تخلو من مرارة ، وتعلو ضحكات جميلات ، من قلوب تطفح بالحزن والأسى .
أيها العيد ،
بساط السنوات الممتد نقطعه في لحظات ، وحبل الذكريات الحافل يصرم بدمعات ، ورنة
وفاء قد يهمس بها الفؤاد الى اللسان ، فتموت على شفاهنا ولمّا ننل منها المراد
.
أيها العيد ،
هل أحدثك حديث السعداء ، وبهاء الأغنياء ؟
أم أحكي لك دمعةً من عينِ فقيرٍ جَرَتْ ، أو من مقلةِ يتيمٍ ترقرقتْ ؟
أو أحدّثك عن نسمةٍ جرّتْ من ذكرى راحلٍ أريجاً ، ومن حديثِ مُسِنٍّ عبيراً ؟
أيها العيد السعيد ،
منْ سعيد ، منْ تريد ، ما الجديد ؟ !!
منْ يا ترى ، هل يا ترى ، كم يا ترى ؟ !!
أيها العيد ،
من لغة العشاق عرفنا كلمة الحب ، ومع حديث الذكرى تاهت بنا الأطياف ، ومن زهور
الوداع جنينا رحيق اللقاء . فماذا عنك أيها العيد ؟ والله لا أدري بما ستعود .
أيها العيد ،
هذه حروف عزفت من فؤاد واله حزين ، يعشق الحب ، ويحب العشق ، له في الترحال باع
، ومع الأشواق صراع ، إن نأى حنّّ ، وان استقر جنّ .
أيها العيد ،
بيني وبينك عهد ود لا ينقطع ، وسيل عتاب لا ينتهي ، ولكن عذرا ، لئن كنت بهجة ،
فذاك إليك ، شرفك الله وأعطاك ، ورزقك وأعلاك .
أيها العيد السعيد البعيد ،
قفزت إلى خاطري بغداد ، فتوقف المداد ، وتذكرت فلسطين ، فاستيقظ الجرح الدفين ،
وها أنا ذا أستنشق غبار المآذن المتراكمة ، والمساجد المتهاوية ، وأقف على طلل
من المجد ، وأرض حماها الأبُ والجدّ ، وقد كبلت أسودها ، واستأسد قرودها ، ويا
لنا من أمّة ، ما أكثر جراحها .. !!
هيه يا بغداد ، يا ذات المجد ، ويا أرض الخلافة ، ويا دار السلام ، ويا جنّة
الدنيا ، ويا مهد الحضارة ، ويا موطن الخلافاء ، ويا موئل العلماء ، ويا تاج
الديار ، ويا رمز الفخار ، ويا بلد الإسلام ، ويا أرض الفاتحين الكرام .
مدّي يداً للواله المشتاقِ = واحكي له عن قصّة
الأشواقِ
وقفي بباب الذكريات لعلها = تطفي لهيب فؤاده الخفّاقِ
وتلفّعي ثوب العفاف فإنما = تسمو الحياة بعفّة العشّاقِ
إلى هنا ، ويغص الفؤاد بحرقته ، والقلب بلوعته ،
وتتقاذفني السنون إلى السنون ، وينكشف لي من التاريخ درس الإباء المكين ،
ومعالم العزّ الآفلة ، وفضاء الأمجاد الفسيح ، وقصّة الصمود العجيبة ، وحروف
الوفاء الأصيلة .
( بغدادُ ) واصطفّتْ حروفٌ خمسةٌ = وازدادتْ
الزّفراتُ من أعماقي
وتراكضت خيلُ الوفاءِ أصيلةً = حول الرّصافة منبر الأشواقِ
يا غادة الحسن الأصيل وتاجَهُ = وربيبةَ المجد التليد الرّاقي
وبهاء أغنية الجمال ولحنها الـ = مُنسابَ في شهدٍ من الأذواقِ
يا كم شدا الغرّيد لحنَ مودةٍ = في ساحتيك على سنا الإشراقِ
وتطلّعت تلك المشاعر ترتوي = من رافديك وفيضك الدّفّاقِ
هذه الأبيات من تأليفي ، وهي مهداة لكل من يحب
بلاد الرافدين المسلمة ، وجراحنـا النازفة ، ودموعنا الساخنـة ، ورنة الحزن
لكلِّ نفثـةِ مصدورٍ ، أو زفرةِ مقهـورٍ ..
أيها العيد ،
عذراً ، ثمّ عذراً ، على جفوة العاشقين ، وأنين المكلومين ، ودموع المفجوعين .
فلما هلّ الهلال ، وتاه الجمال ، سامرني هلالك ، وخاطبني جمالك :
مهلاً يا أسير الأحزان ، فما أنا إلا بسمة مرسومة على شفتيك ، تبعث الأمل ،
وتشحذ الهمم ، وتحكي الثبات ، لتستنشق عبير التفاؤل الفواح عند الصباح ، فاشدد
عزيمتك ، وقوِّ شكيمتك ، فالكل ينظر إليك ، ويتباهى لناظريك .
عندئذ ، وقف اليراع عن المسير ، معارضاً رغبة الأمير ، ذلك الفؤاد الأسير ،
فعجبا لتقلّب الأيام ، وتفاوت الآلآم ، ولم العجب ؟ والبدر قد غاب ، وأصبح
كالسراب ، وعادت المواجع ، سائرة جيوشها ، فازّينَتْ عروشها ، وانقضى الحلم
الجميل ، مع بزوغ شمس الأصيل ، عازفاً لحن الوفاء ، راسماً معنى البهاء .
وكلّ عيد ، وأنتم وأنا وبلاد المسلمين ،،
بخير ومنعة ، بإذن الله الكريم ..
دمتم بحفظ الله