الأستاذ الشيخ : إسماعيل محمد ربعي
رئيس مركز ابن باز الخيري الإسلامي / فلسطين
كان صاحب أموال وفيرة يجِدُّ عليها لكسبها ليلاً ونهاراً ، وكان صالحاً تقياً ،
فطالما عمر بيوت الله صلاة وذكراً ، تجارته لم تلهِهِ عن شيء من ذلك ، وكان
لديه زوجة صالحة أيضاً ، فهي توقظُهُ للصلاةِ في جوف الليل ، وكان يتحرى الحلال
دوماً ، فرُزِقَ بمولودٍ ذكرا ، مرت السنون ، وكبر هذا الولد ، وسُمّيَ " بيوسف
" .
توفي الرجل عن " يوسف " وكان عمرُهُ قد ناهز البلوغ ، فورث هذه الأموال عن أبيه
، وتزوج فرُزِقَ بخمسة أبناء وخمس بنات ، كان أوسط الأبناء يدعى " عيداً " ، و
قد وُلِدَ وبه تشوهاً خَلقياً ، حيث كان لا يستطيع أن يسير وحده أو يقف على
قدميه ، لالتواءٍ في ساقيه ، وكان هذا الأمر مخفياً قبل أن يمشي .
ولما رأت جدته ما به ، ألحت على والده بأن يعالجه قبل أن يصعب علاجه ، فكان لا
يستجيب لها ، بل قد يسيء إليها أحياناً ، بالسب والشتم ، واستمر هذا الأمر على
حاله قرابة العامين ، وازداد الألم والمشقة على " عيد " ، فعندها بادر الوالد
بالرضوخ لطلبات أمه وزوجته ، فأخذه إلى المشفى المتخصص في هذا الشأن .
قام الأطباء بعمل الفحوصات اللازمة وأخذ العينات لتشخيص المرض بدقة ، وظهر بعد
ذلك أنه يستحيل معالجة هذا الولد بالعقاقير الطبية ، فقرروا إجراء عملية جراحية
وكسر عظام الساقين وإعادتها بصورة سوية ، حتى يستطيع الولد السير عليهما ، وجاء
يوم العملية ، حيث حضر الوالد والأم والجدة ، فأجريت العملية "لعيد" ، وكللت
بالنجاح .
وعلى الفور ، قام الوالد بالإياب من المشفى لإخبار بقية الأخوة والأخوات بما تم
هذا اليوم ، وكان مسروراً فرِحاً ،وما لبث أن اتصلت به إدارة المشفى لمرافقة
ولده ، حيث أنه بحاجة ماسة إلى من يقف بجواره على مدار الساعة ، ومكث هذا الولد
في المشفى أسبوعين كاملين ، وبعدها عاد إلى البيت ، وجلس فيه أسبوعاً آخر ،
وأخذ ينهض شيئاً فشيئاً ، حتى قوي على المشي ، وأصبح يمشي كأي إنسان آخر ، مكث
على هذا الحال قرابة شهرين تقريباً ، و في يوم من الأيام ، جاء الأب إلى البيت
، وكان متأخراً ، فاستقبله " عيد " ، فسقط على الأرض ، وأخذ يئن ويصرخ ، فخرجت
الأم ، فإذا بابنها ملقى على الأرض ، إنه الألم في عظامه نتيجة لوجود القطع
المعدنية بداخلها ، فأخذه أبوه على الفور إلى المشفى ، وفي الطريق جاءت سيارة
مسرعة ، فأصيب الولد إصابات بالغة ، فارتطمت بسيارتهم ، وغشي على الوالد ، ونقل
إلى المشفى وقد فارق الحياة ، فلما أفاق الأب من غيبةبته ، ازداد غماً وهماً ،
ونُقل الخبر إلى البيت ، وخيم الصمت والوجوم على العائلة كاملة .
أخذ الأب يعيد حساباته مع نفسه ، وينظر إلى أمه بعين الإشفاق والندم على ما كان
منه تجاهها ، من إساءة وشتم وغيره ، كانت الأم تغضب عليه أحياناً ، وتتفوه
بكلمات لا يعلمها إلا الله ، وربما وافقت هذه الكلمات ساعة إجابة .
فهذا الوالد ورث الأموال بدون أدنى تعب ، وقد قضى على معظمها علاجاً ونفقات على
عياله حتى استوعبها ، بل أخذ يقترض من أصحابه ومعارفه ، حتى وصل به المطاف إلى
عرض بيته للبيع ، فلما نظرت إليه الأم علمت أن ما جرى بولدها ، سببه دعوات
الوالدة عليه ، إذ ندم الولد ندماً شديداً ، وأخذ يستعطف أمه ، ويبكي بين يديها
، ولكن لكل عمل جزاء ، والجزاء من جنس العمل ، فقد ذل بعد أن كان عزيزاً ، وهان
على نفسه وعلى أبنائِهِ حيث أصبح فقيراً ، وتراكمت عليه الديون، ولا يدري ماذا
يفعل .
حقاً إنه كان يعيش في غفلة وإعراض عن مولاه ، فضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وعلم
أنه لم يحسن التصرف في مال والده ، بل أغراه هذا الثراء حتى ابتلاه الله بما
ابتلاه . فهل عرف الوارث حق الميراث ورضى الوالدين ؟