|
في ليلة لا تسمع فيها إلا صوت الرعد القاصف ، وهيجان الريح المرعب . في ليلة
انطفأت فيها الأنوار وأظلم البيت وانعدمت الكهرباء . في ليلة ممطرة باردة . في
ليلة اسودَّ ليلها وغابت نجومها . في ليلة حرك رعبها قلبي ، وهز بردها جسمي ،
لا أرى مد يدي ، ظلام حالك وجو مرعب ، أغلقت شباك غرفتي لأقلل وحشتي ، أنفاسي
تتقطع في صدري ، لا أحد حولي ، ولا أمي ولا أبي ، ولا أختي ولا أخي ، وحيداً
فريداً مرعوباً خائفاً ، لا أستطيع فتح عيني خوفاً من مصير لا أعلمه ينتظرني .
وفجأة وإذا بخفقات تزيد ، ونبض دمي يعلو ، فما شعرت إلا وشيء يكتم أنفاسي ، صحت
بأعلى صوتي ، ضاق نَفَسي ، بردت أطرافي ، هملت يداي ، ناديت يا إخوتي أصدقائي
أغيثوني ، ما هذا الذي داهمني آتوني بطبيبي ، بل بصديقي وأخي وحبيبي ، لكن
واحسرتاه .. واحسرتاه ... أصيح بأعلى صوتي فلا أسمع سوى صدى ندائي يتردد في
أرجاء غرفتي المظلمة .
قلبي يخفق بأعجوبة ، كأني أتنفس من خرم إبرة . أيقنت عندها أنه جاء يطلبني ،
توسلت إليه ليمهلني لينظرني ولو ساعة من نهار ، لكن دون جدوى ، كان شديداً
غاضباً مني ، عيناه تحكي حقده عليَّ ، رفض توسلي إليه ، قال بأعلى صوته : ألم
تعرفني ؟ ألم تسمع بي ؟ قلت : بلى ... أنتَ من جاء ليغمض عيني ويلفني بأكفاني ،
بل ويبعدني عن أهلي وأحبابي ، أنت من جاء ليخطفني من بين أشرطتي وقنواتي ،
ويدمر تسليتي بألعابي .
ردَّ بصوت مخيف : إنك راحل ، وإلى مطار تعرفه مسافر . زادت آلامي ، وحُبست في
جوفي أحرفي قبل كلماتي .
انتهرني قائلاً لِمَ تنساني ، لِمَ تنساني ....
ارتجت كلماتي وخانني لساني ، ما فكرت يوماً أنك تطلبني ، ما فكرت يوماً أنك
تطرق بابي لتعيدني لصوابي ، وتغلق صفحة حياتي ، وتقطع استمتاعي بشبابي .
عندها تذكرت أنها صيحات فراق ، وآلام وداع ، أودع الدنيا راحلاً إلى مطار أرضه
غير مرصوفة ، وسادته التراب ، ومستقبلوه الدود ، وغطاؤه اللحود ، برده شديد
يفتك العظام ، يقطع الأوصال ، يمحو الملامح والشباب ، وتسيل منه العينان على
الخدان ، ويتدلى منه اللسان ، نداؤه لا يُسمع ، وتوسله لا يُجاب ، إذاً قد أصبح
بينه وبين الدنيا حجاب ...
صحتُ بأعلى صوتي : آهٍ ... لو أعود .
سحبت جسمي وأسندت ظهري على جدار غرفتي المرعب وأنا أشعر بالوهن والمرض يدبُّ
إلي . هل هو الموت؟ هل انتهت أيامي وجاء لقائي بربي ؟ حزنت ... بكيت ... رفعت
صوتي , أيقنت أن لا أحد يسمعني . شبح الموت يتراءي أمام ناظري , تدحرجت دموعي
على خدي , خوفاً وهلعاً أن أفارق الحياة وأنا في ريعان الشباب . آهات وآلام
تحفز دموع الندم , لتقول لي:كم من متعة استمتعتها ,وشريط غناء سمعته , وصلاة
تكاسلت عنها , ارتعش لساني وخرجت كلماتي : بأي وجه أقابل ربِّي ؟ كيف أعتذر وقد
خنته ؟ هل سيعفو عني أم سيلقي بي غير مبالٍ إلى النار؟ الأسئلة الملحة تطاردني
, والحسرة والندم ينهشان قلبي . سأهرب ولكن إلى أين ؟ الدنيا كلها لن تخفيني
ممن يطاردني , لساني يلهث يردد رحماك ربِّي ... إلهي أتوسل إليك أمهلني لازلت
في ريعان شبابي , سفينة حياتي تتحطم على صخرة النهاية . الموت يدكها .. يحطمها
.. يكسرها بشراسة كأن بينه وبينها عداوة ... رحماك ربي .
وما هي إلا لحظات وإذا بباب البيت يفتح مبشراً بوصول أهلي , فرحت فرحاً لا يوصف
, استجمعت أنفاسي ودَّبت الحياة لأعضائي , تحرك لساني , ناديتهم بأعلى صوتي ,
وهو يطاردني جاثم على صدري , أمي الحبيبة أدركيني ... حبيبك يغادر الدنيا ,
تودع آخر أنفاسه الحياة . أمي الحبيبة أدركيني ... حبيبك أنفاسه محجوزة , ومن
الموت مفزوعة , أمي الحنون أين أنتِ عني ؟ أين حنانك مني؟ بل أين حبٌّك لي؟
أماه امنعيني ومن الموت أجيريني .. حبيبك يموت ... أماه مُدِّي لي يدك اعلق
فيها آخر أنفاس الحياة . أماه مُدِّي لي يدك أقبِّلها .. أودعها ... أشمّ فيها
رائحة المحبة . أمي الحبيبة سامحيني كم تطاولت يوماً عليك . أماه إنها لحظات
الوداع وزفرات الفراق . دنت مني أمي ودموعها تكاد تغرقني . نادتني حبيبي حياتي
, أفديك بنفسي , وضعتْ رأسي علي حجرها , وأمسكت يدي بيدها , بكاؤها يقطع قلبي
ويزيدني ألماً فوق ألمي . صحت : آه آه يا أماه من شيء يقطع قلبي , يمزق أعضائي
, يجري مع دمي , بل يا أماه يكسر عظامي .. آه لو تعلمين .. إنه ألم شديد وفراق
إلى مدى بعيد .. زاد بكاؤها ورفعت يديها إلى السماء تدعو إلهي : أمهل حبيبي
ليتوب , ليعود . إلهي لا تخيب رجائي فيك .
مددت يدي لأختي ... لأخي ... لأبي ... تعلقتُ بهم .. وداعاً أحبَّتي.. علا
بكاؤهم , وزاد أساهم, يرون آلامي لا تُوصف , تعجز عن وصفها الأقلام , ويقف عنها
عاجزاً الكلام .. جبال على صدري , وهموم تثقلني .. إلهي من يفرِّج همي وينفِّس
كربتي .. اشتد نزعي , ضاق والله بها صدري .. ينادونني قل لا إله إلا الله .
وذاك يقول احملوه للمستشفى لازال فيه حياة . حُملت للمستشفى, واستقبلت بحفاوة ,
ووضعت بين الأجهزة في غرفة الإنعاش .. هذا بإبرة وذاك بأكسوجينه , وآخر ينعش
بضربات القلب . حاولوا ثم حاولوا . لكن لم يستطيعوا انتشالي من بين فكي الموت,
لقد شدَّ عليَّ بأسنانه وشدَّ علي بأضراسه .
وبعد ساعات حار الطبيب بعلمه , وانثنى منكساً رأسه معلناً أمام الموت فشله .
خرج لأهلي, دموعه على خده قابضاً يده . تعالوا لتحضروا وفاته . دخلوا الغرفة
كلهم , ولساني يهذي بأمور لا أشعر بها . حكيت لهم قصة حياتي , بشريط مسجل على
لساني , كنتُ مظهراً التزامي وأمامهم مبتعداً عن الملهيات والأغاني , وإذا بهم
يتفاجئون بالحقيقة المرَّة . انكشف الغطاء وبدأ الزيف والافتراء . حقيقة مُرة
وكذبة كبيرة , عشت فيها سنين . تذكرت عندها كلاماً لسفيان الثوري : أكبر خيانة
أن يخونك لسانك عند الموت فلا ينطق بها . أتعرف ما هي ؟ إنها الشهادة , وفجأة
تجمع الأطباء حولي واشتد نزعي , وصِحْتُ بأعلى صوتي : آه لو أعود .من منكم
يزيدني من عمره ساعة .. دقيقة .. ثانية ؟
لأكتشف الحقيقة وأحطم زيف الكذبة ,كل منهم ودمعه ينهال على خديه قابضاً من
الحزن يديه .
وفجأة وإذا بأجهزة الأطباء تضطرب وتخفق بسرعة , هوت كلها إلى مؤشر الصفر معلنة
النهاية , فدقت أجراسها خطراً , وعلا صوتها منذراً , وانطفأت كلها وفاضت معها
روحي . ورأى الكل مصرعي بل نهاية حياتي وبداية قيامتي ، خرج الجميع من الغرفة
وتركوني وحيداً فريداً في غرفة باردة , تركوني مع أيدٍ غريبة تقلبني وتلفني
بأثواب . ربطوا بها يدي , وشدوا بها رأسي , واستدعوا موظف الثلاجة ليحملني على
عربته وحيداً لا مرافق لي ، تركني أهلي كأنهم خائفون مني مستوحشون من حالي ، لا
جرأ أحد منهم على لمسي ، أدخلت الثلاجة وفتحت لي أبوابها , حملني اثنان وعن
العربة أنزلوني , وفي الدرج الأول تركوني , مكان ضيق كأنه لحد .
أغلقوا علي إغلاقاً محكماً , ثم أقفلوها خارجين و إلي أعمالهم عائدين , أطفئوا
الأنوار , زاد برد الثلاجة , كل ما فيها أناس صامتون , جيران لا يتكلمون, لا
نفس فيسمع , ولا داعي فيجاب ,كنت أمر بقرب هذا المكان لا أستطيع النظر إليه
خوفاً منه وها أنا اليوم أودع فيها , يالها من نهاية , وما هي إلا لحظات وإذا
بأبواب تُفتح , ضجيج وأصوات عالية , ومن بينهم صوت يقول : أنا أغسله , وآخر أنا
أكفنه .
أخرجوني من درجي ووضعوني على مكان غسلي , كأنهم خائفون مني , خلعوا ملابسي
وستروا عورتي , صبوا الماء فوق رأسي وغسلوني , قرَّبوا الأكفان ونشروها ثم
طيَّبوها , حملت بين أيديهم ألقوني بينها , بدأوا بتغطية وجهي , أوثقوني
بالأربطة , ما أشده وأظلمه من غطاء , قبَّلني أبي وأخي , واستدعيت أمي فلم
تتمالك نفسها , حنت رأسها عليَّ وقبَّلتني .
تركوني في ناحية المسجد وحيداً , انتهت الصلاة وتداعى أحبتي : إلينا بعبد الله
فاحملوه وللصلاة قرِّبوه , حُملت بين الأيدي , ورفعت على الأعناق صلى الناس
وخرجوا.
حُملت على الأكتاف تتبعني الدعوات : اللهم ثبَّته عند السؤال , أين أصبح أصحابي
يا أحبابي , دعوني معكم ولو ليلة , أترمون بي ؟! قد كنت لكم خادماً أخاً صادقاً
, أفي حفرة تودعونني ؟ ضاعت هداياي لكم وخدماتي ,كم ليلة سامرتكم أضحكتكم صدق
فيَّ حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم , حديث قد طرق سمعي لكني لم أعره بالاً , تذكرت قوله صلى الله عليه وسلم :
(( إذا وضعت الجنازة واحتملها على أعناقهم , فإن كانت صالحة قالت : قدِّموني
قدَّموني , وإن كانت غير صالحة قالت : يا ويلها أين تذهبون بها , يسمع صوتها كل
شيء إلا الإنسان ولو سمعها لصُعق )) [ رواه البخاري والنسائي والبيهقي وأحمد ]
.
تنادي جنازتي : دعوني ... دعوني ... أعرف ما أمامي , إنها أشرطتي وأفلامي,
أنزلوني ... أنزلوني .
أما تسمعون ندائي ... لا أحد يبالي ... وضعوني على شفير القبر وحافته , أرى
قبري يُحفر أمامي . يا أبي أتحفر لي لتواريني ، أنظر إلي قبري كأني أعرفه موحش
, مظلم , مقفر. آه ... يا إلهي ما أوحشة , طين وتراب , صخور كبيرة تكتم الأنفاس
، هاهم انتهوا وللطين قربوا , نادوا إلينا بالجنازة , حملها الأقربون مسرعين
ينتحبون , بكاؤهم يزيد يعلمون أني مغيب إلى مدى بعيد , أنزلوني , استقبلني أبي
وأخي الأكبر , وسدُّوا لي التراب , وضعوا جنبي بين اللحود . عندها ودَّعت
الدنيا . وداعاً أيتها الشمس , آه ... أيها الظلام , حلوا رباط أكفاني ,
قبَّلني أبي ودعا لي , نادوا باللحود حجارة كبيرة وضعوها فوق رأسي على رجلي
وغطوا جسدي , أصيح فلا مجيب , أيها الناس أغلقتم منافذ الهواء , فإذا بالنداء
لا يقرع إلا آذاناً صماء . زادوا علي التراب , تراب فوق تراب , الكل يحثو حتى
ردموا الحفرة وأغلقوا معها آخر أنفاس الحياة , تهيأوا للرحيل..
ذهبوا وأبقوني وحيداً , ذهبوا وتركوني أسامر الدود , استقبلني القبر بضمته ,
واللحد بغمته , أخذ التراب ينهال على وجهي , كفى أيها المستقبلون, أهكذا
تستقبلون ضيفكم: ردَّ القبر بصوت مرعب : أما سمعت في الدنيا ندائي (( ما من يوم
يطلع فجره إلا وينادي القبر : أنا بيت الظلمة , أنا بيت الوحشة , أنا بيت الدود
, اسمع إلى ترحيبي : إذا وُضع العبد الفاجر في جوفي قلت له : لا أهلاً ولا
مرحباً , أما والله قد كنت أبغض من يمشي على ظهري , إلي فقد وليتك اليوم فسترى
صنيعي بك . فأضمه ضمة حتى تختلف أضلاعه , ثم يوكل به سبعون تنيناً ينهشونه
ويخدشونه حتى يفضى به إلى الحساب )) [ كما في سنن الترمذي ] .
هذا هو ندائي أما سمعت به ؟! نعم قد سمعته وطرق أذني , ولكني تباعدت اللقاء بل
تناسيته . أمهلني أيها القبر لأعود . انتهرني قائلاً : تعود , كلا قد فات
الآوان .
عندها دبَّ الدود على وجهي وبدأ يأكل أكفاني , صحت بأعلى صوتي : آه . آه لو
أعود . آه . آه لو أعود .
استيقظ أبي وفتح باب غرفتي : بُنيّ ما بك ؟ أبي ... أمي ... آه لو أعود .
بنيَّ من أين تعود ؟ أنت في البيت , تعلقت به يا أبي أنقذني , أبعد الدود عن
وجهي.
بنيَّ لا تخف أنت في بيتك , تجمع إخواني أنا في صيحة واحدة : آه لو أعود .
أضاءوا الأنوار وإذا بي بينهم ..
تلمست أيديهم , عندها أدركت أنني لازلت على قيد الحياة .
آه يا لله ! يا له من حلم ... ما أبشعه , بل وأوحشه , قد هزَّ كياني أرعبني ومن
الآخرة أدناني , جلست على فراشي , ها أنت يا عبد الله في مهلة إذاً فاعمل .
تذكرت الربيع بن خيثم وقبره : حفر له قبراً داخل بيته فكان إذا مالت نفسه إلي
الدنيا نزل في قبره , وإذا ما رأى ظلمة القبر ووحشته صاح { رَبِّ ارْجِعُونِ }
فيسمعه أهله فيفتحون له , وفي ليلة نزل قبره وغطى بغطائه . فلما استوحش داخله نادى
{ رَبِّ ارْجِعُونِ } فلم يسمع له أحد . وبعد زمن طويل , سمعته زوجته ،
فأسرعت إليه وأخرجته . فقال عند خروجه : ( اعمل يا ربيع قبل أن تقول رب ارجعون
فلا يجيبك أحد ) [ صلاح الأمة في علو الهمة ]
عرفت أنه لا طريق للنجاة إلا طريق الاستقامة .
كسرت أشرطتي , وحرقت مجلاتي , جددت استقامتي البالية , قطعت حبل كل ودٍّ
بزملائي القدامى, واتجهت إلى ربي : إليك ربي , إليك ربي .
فكلما نويت بمعصية تذكرت تلك الرحلة التي رحلتها , فوالله بعدها ما هممت بمعصية
..
قامت بتفريغه أختكم / عاشقة الجنان