مع تحيات موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net
البينة العلمية في القرآن إن البينة المعجزة القرآنية الموجودة بين أيدينا والباقية بعدنا إلى ماشاء الله تحمل الرسالة الإلهية إلى البشر ، كما تحمل الدليل على صدق هذه الرسالة فهي الشاهد والمشهود عليه كما قال تعالى﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾ (هود:17). والقرآن معجز بلفظه ومعناه ، لأنه من عند الله ، فألفاظه إلهية ومعانية وعلومه إلهية، وكل منها يدل على المصدر الذي جاء منه هذا القرآن . وهو بذلك أكبر دليل وشهادة بين أيدينا قال تعالى ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ … ﴾ (الأنعام:19) فهو رسالة ومعجزة لمن نزل عليهم ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة . وقد جعل الله العلم الإلهي الذي تحمله آيات القرآن هو البينة الشاهدة على كون هذا القرآن من عند الله كما قال تعالى ﴿ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ (النساء:166) أي أنزله وفيه علمه. ففي هذه الآية بيان لطبيعة المعجزة العلمية ، التي نزلت رداً على إنكار الكافرين ، لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم التي تبقى بين يدي الناس ، وتتجدد مع كل فتح بشري في آفاق العلوم والمعارف ذات الصلة بمعاني الوحي الإلهي . قال الخازن عند تفسير هذه الآية : "لكن الله يشهد لك يا محمد بالنبوة ، بواسطة هذا القرآن الذي أنزله عليك ". وقال ابن كثير : " فالله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب ، وهو القرآن العظيم .. ولهذا قال: أنزله بعلمه : أي فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه ،من البينات والهدى ، والفرقان ، وما يحبه الله ويرضاه ، وما يكرهه ويأباه ، وما فيه من العلم بالغيوب ، من الماضي والمستقبل ". وقال أبو العباس ابن تيمية : فإن شهادته بما أنزل إليه هي شهادته بأن الله أنزله منه، وأنه أنزله بعلمه ، فما فيه من الخبر ، هو خبر عن علم الله ، ليس خبراً عمن دونه، وهذا كقوله : ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ (هود:14). وكل آية من كتاب الله تحمل علماً إلهياً يعرفه البشر عند ارتقائهم بأسباب العلوم والمعارف في ذلك الميدان الذي تتحدث عنه الآية القرآنية . والقرآن ملئ بالآيات التي تتحدث عن مظاهر الكون ، وحديثه عن الكون هو حديث من يعلم أسراره ودقائقه ، مع أن البشرية كلها في وقت النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تعلم معظم تلك الأسرار، وكان يغلب على تفكيرها الأسطورة والخرافة. لذلك رأينا الجراح الفرنسي العالمي الشهير الدكتور: موريس بوكاي يتقدم إلى البشرية بأطروحة قال فيها : لقد قامت الأدلة على أن القرآن الذي نقرأه اليوم ، هو نفس القرآن الذي قرأه النبي محمد صلى الله عليه وسلم على الصحابة ، وما دام أن القرآن قد أفاض في الحديث عن الكون وأسراره ، فإننا نستطيع بهذه الحقيقة أن نعرف منها إذا كان القرآن من عند الله باختبار يعرفه كل عاقل في عصرنا . فإذا كان القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو مملوء بالوصف لمظاهر الكون : الأرض ، السماء ، الجبال ، البحار ، الأنهار ، الشمس ، القمر ، النبات ، الحيوان ، الإنسان ، الرياح ، الأمطار .. وغير ذلك ،فإن حديثه عن هذه المظاهر الكونية سيعكس لنا علم محمد صلى الله عليه وسلم وثقافته عن المخلوقات وأسرارها ، كما يعكس لنا علم مجتمعه وبيئته، وعلوم عصره في ذلك المجال ، وهي علوم غلبت عليها السذاجة والخرافة والأسطورة، وسنجد القرآن عندئذ مملوءاً بالخرافة والأسطورة والخبر الساذج عند حديثه عن الكون وأسراره ، كما هو شأن كل الكتب التي دونت في تلك الأزمنة بما فيها الكتب المقدسة عند اليهود والنصارى التوراة والإنجيل التي طرأ عليها التحريف، هذا إذا كان القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم. أما إذا كان القرآن من عند الله فسنراه عند حديثه عن المخلوقات وأسرارها يسبق مقررات العلوم الحديثة, وسنرى الاكتشافات العلمية تلهث وراءه فتقرر ما فيه من حقائق وتؤكد ما فيه من مقررات في شتى المجالات . ولقد قضى الدكتور موريس بوكاي لتحقيق هذا الاختبار عشر سنوات يتعلم فيها القرآن واللغة العربية ، ويقارن بين القرآن وبين الكشوف العلمية الحديثة , ثم ألف كتاباً سماه :" دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة " . وقد أثبت فيه سلامة القرآن من التحريف, ودخول التحريف على التوراة والإنجيل وأثبت تعارض التوراة والإنجيل مع العلوم الحديثة؛ كما أثبت سبق القرآن لهذه العلوم وبين أن هذا مما اشتمل عليه وعد الله القائل : ﴿ سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ (فصلت:53).يقول د. بوكاي : "إن القرآن لا يخلو فقط من متناقضات الرواية وهي السمة البارزة في مختلف صياغات الأناجيل بل هو يظهر أيضاً – بكل من يشرع في دراسته بموضوعية وعلى ضوء العلوم – طابعه الخاص وهو التوافق مع المعطيات العلمية الحديثة . بل أكثر من ذلك ، وكما أثبتنا ، يكتشف القارئ فيه مقولات ذات طابع علمي من المستحيل تصور أن إنساناً في عصر محمد r قد استطاع أن يولفها، وعلى هذا فالمعارف الحديثة تسمح بفهم بعض الآيات القرآنية التي كانت بل تفسير صحيح حتى الآن . فهاهو ذا الحق يتبين كما وعد الله ، وهاهي ذي المعاني التفصيلية التي تضمنتها الآيات القرآنية عن الحقائق الكونية تُرى وتتجلى فتُعلم، كما قال تعالى ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ87وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ88﴾ (ص:87-88). قال الفراء في تفسير الحين الذي ذكرته الآية أنه : " بعد الموت وقبله ، أي لتظهر لكم حقيقة ما أقول (بعد حين) أي في المستأنف ". وذهب السدي الكبير إلى هذا المعنى. وقال ابن جرير الطبري، بعد ذكر الأقوال المتعددة، في تفسير الحين الذي ذكرته الآية : و أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يقال : أن الله أعلم المشركين بهذا القرآن أنهم يعلمون نبأه بعد حين ، من غير حد منه لذلك الحين بحد ، ولا حد عند العرب للحين لا يجاوز ولا يقصر عنه، فإذا كان ذلك كذلك، فلا قول فيه أصح من أن يطلق، كما أطلقه الله، من غير حصر ذلك على وقت دون وقت. ومن أمثلة البينة العلمية في القرآن ما يأتي : التحقيق العلمي : لقد توصل علماء البحار بعد تقدم العلوم في هذا العصر، إلى اكتشاف الحاجز بين البحرين، فوجدوا أن هناك برزخاً يفصل بين كل بحرين ، ويتحرك بينهما ويسميه علماء البحار الجبهة تشبيهاً له بالجبهة التي تفصل بين جيشين. وبوجود هذا البرزخ يحافظ كل بحر على خصائصه التي قدرها الله له، ويكون مناسباً لما فيه من كائنات حية تعيش في تلك البيئة . ومع وجود هذا البرزخ فإن البحرين المتجاورين يختلطان اختلاطاً بطيئاً ، يجعل القدر الذي يعبر من بحر إلى بحر آخر يكتسب خصائص البحر الذي ينتقل إليه عن طريق البرزخ الذي يقوم بعملية التقليب للمياة العابرة من بحرٍ إلى بحر ؛ ليبقى كل بحرٍ محافظاً على خصائصه . تدرج العلم البشري لمعرفة حقائق اختلاف مياه البحار وما بينها من حواجز : h اكتشف علماء البحار أن هناك اختلافاً بين عينات مائية أخذت من البحار المختلفة في عام 1284هـ- 1873م على يد البعثة العلمية البحرية الإنجليزية في رحلة تشالنجر، فعرف الإنسان أن المياه في البحار تختلف في تركيبها عن بعضها البعض من حيث درجة الملوحة، ودرجة الحرارة ، ومقادير الكثافة ، وأنواع الأحياء المائية، ولقد كان اكتشاف هذه المعلومة بعد رحلة علمية استمرت ثلاثة أعوام، جابت جميع بحار العالم. وقد جمعت الرحلة معلومات من 362 محطة مخصصة لدراسة خصائص المحيطات. وملئت تقارير الرحلة 29.500 صفحة في خمسين مجلداً استغرق إكمالها 23 عاماً. وإضافة إلى كون الرحلة أحد أعظم منجزات الاستكشاف العلمي فإنها أظهرت كذلك ضآلة ما كان يعرفه الإنسان عن البحر . h بعد عام 1933م قامت رحلة علمية أخرى أمريكية في خليج المكسيك، ونشرت مئات المحطات البحرية، لدراسة خصائص البحار، فوجدت أن عدداً كبيراً من هذه المحطات تعطي معلومات موحدة عن خصائص الماء في تلك المنطقة ، من حيث الملوحة والكثافة والحرارة والأحياء المائية وقابلية ذوبان الأكسجين في الماء، بينما أعطت بقية المحطات معلومات موحدة أخرى عن مناطق أخرى، مما جعل علماء البحار يستنبطون وجود بحرين متمايزين في الصفات لا مجرد عينات محدودة كما علم من رحلة تشالنجر. h وأقام الإنسان مئات المحطات البحرية لدراسة خصائص البحار المختلفة، فقرر العلماء أن الاختلاف في هذه الخصائص يميز مياه البحار المختلفة بعضها عن بعض ، لكن لماذا لا تمتزج البحار وتتجانس رغم تأثير قوتي المد والجزر التي تحرك مياه البحار مرتين كل يوم، وتجعل البحار في حالة ذهاب وإياب ، واختلاط واضطراب، إلى جانب العوامل الأخرى التي تجعل مياه البحر متحركة مضطربة على الدوام مثل الموجات السطحية والداخلية والتيارات المائية والبحرية ؟ ولأول مرة يظهر الجواب على صفحات الكتب العلمية في عام1361هـ-1942م. فقد أسفرت الدراسات الواسعة لخصائص البحار عن اكتشاف حواجز مائية تفصل بين البحار الملتقية ، وتحافظ على الخصائص المميزة لكل بحر من حيث الكثافة والملوحة ، والأحياء المائية ، والحرارة، وقابلية ذوبان الأوكسجين في الماء. وبعد عام 1962م عرف دور الحواجز البحرية في تهذيب خصائص الكتل العابرة من بحر إلى بحر لمنع طغيان أحد البحرين على الآخر فيحدث الاختلاط بين البحار الملحة ، مع محافظة كل بحر على خصائصه وحدوده المحدودة بوجود تلك الحواجز. ويبين الشكل التالي حدود مياه البحر الأبيض المتوسط الساخنة والملحة، عند دخولها في المحيط الأطلسي ذي المياه الباردة والأقل ملوحة منها. h وأخيراً تمكن الإنسان من تصوير هذه الحواجز المتحركة المتعرجة بين البحار الملحة عن طريق تقنية خاصة بالتصوير الحراري بواسطة الأقمار الصناعية ، والتي تبين أن مياه البحار وإن بدت جسماً واحداً ، إلا أن هناك فروقاً كبيرة بين الكتل المائية للبحار المختلفة ، تظهر بألوان مختلفة تبعاً لاختلافها في درجة الحرارة .وفي دراسة ميدانية للمقارنة بين مياه خليج عمان والخليج العربي بالأرقام والحسابات والتحليل الكيمائي، تبين اختلاف كل منهما عن الآخر من الناحية الكيميائية والنباتات السائدة في كل منهما ووجود البرزخ الحاجز بينهما . وقد تطلب الوصول إلى حقيقة وجود الحواجز بين الكتل البحرية ، وعملها في حفظ خصائص كل بحر قرابة مائة عام من البحث والدراسة ، اشترك فيها المئات من الباحثين، واستخدم فيها الكثير من الأجهزة ووسائل البحث العلمي الدقيقة .بينما جلى القرآن الكريم هذه الحقيقة قبل أربعة عشر قرناً ، قال تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ19بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ20فَبِأَيِّ ءَالَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ21يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ22﴾ (الرحمن:19-22). وقال تعالى : ﴿… وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا … ﴾ (النمل:61). المعاني اللغوية وأقوال المفسرين : مرج : قال ابن فارس : مرج : الميم والراء والجيم أصل صحيح يدل على مجيء وذهابٍ واضطراب، ومرج الخاتم في الإصبع : قلق ، وقياس الباب كله منه ومرجت أمانات القوم وعهودهم : اضطربت واختلطت، والمَرْج : أصله أرض ذات نبات تمرج فيها الدواب. البحرين :قال ابن فارس: الباء والحاء والراء، قال الخليل: سمي البحر بحراً لاستبحاره وهو انبساطه وسعته... ويقال للماء إذا غلظ بعد عذوبته استبحر، وماء بحري أي مالح . وقال الأصفهاني : وقال بعضهم : البحر يقال في الأصل للماء المالح دون العذب. وقال ابن منظور : وقد غلب على المالح حتى قلّ في العذب . فإذا أطلق البحر دل على البحر المالح ، وإذا قيد دل على ما قيد به. والقرآن يستعمل لفظ الأنهار للدلالة على المياه العذبة الكثيرة الجارية. ويستعمل لفظ البحر ليدل على البحر المالح قال تعالى﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ ﴾(إبراهيم:32). وكذلك يستعمل لفظ البحر في الحديث للدلالة على الماء الملح، فقد سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ r فَقَالَ: يا رسول الله إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ ؟ فقال رسول الله r: ( هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ) البرزخ : هو الحاجز : وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أنه لا يرى .البغي : قال ابن منظور: وأصل البغي مجاوزة الحد، وبمثله قال الجوهري والأصفهاني. المرجان : قال ابن الجوزي : وحكى القاضي أبو يعلي أن المرجان ضرب من اللؤلؤ كالقضبان وروي عن الزجاج قوله : المرجان أبيض شديد البياض .وقال ابن مسعود : المرجان الخرز الأحمر .ونقل أبو حيان عن بعضهم أن المرجان هو الحجر الأحمر. وقال القرطبي: وقيل المرجان عظام اللؤلؤ وكباره ، قاله علي وابن عباس رضي الله عنهما، واللؤلؤ صغاره، وعنهما أيضاً بالعكس أن اللؤلؤ كبار اللؤلؤ والمرجان صغاره وقاله الضحاك وقتادة . وقال الألوسي: وأظن أنه إن اعتبر في اللؤلؤ معنى التلألؤ واللمعان ، وفي المرجان معنى المرج والاختلاط فالأوفق لذلك ما قيل ثانياً فيهما.أي أن اللؤلؤ ما عظم منه والمرجان اللؤلؤ الصغار. والحاصل أن المرجان نوع من الزينة يكون بألوان مختلفة بيضاء وحمراء، ويكون كبيراً وصغيراً، وهو حجر يكون كالقضبان، وقد يكون صغيراً كاللؤلؤ أو الخرز، وهو في الآية غير اللؤلؤ، وحرف العطف بينها يقتضي المغايرة . هذا والمرجان لا يوجد إلا في البحار الملحة. والآيات ترينا دقائق الأسرار التي كشف عنها اليوم علم البحار ، فهي تصف اللقاء بين البحار الملحة ودليل ذلك مايلي: أولاً : لقد أطلقت الآية لفظ البحرين بدون قيد ، فدل ذلك على أن البحرين ملحان . ثانياً : بينت الآيات في سورة الرحمن أن البحرين يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، وقد تبين أن المرجان لا يكون إلا في البحار الملحة، فدل ذلك على أن الآية تتحدث عن بحرين ملحين، قال تعالى :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَان﴾ أي يخرج من كل منهما. فمن الذي كان يعلم أن البحار الملحة تتمايز فيما بينها رغم اتحادها في الأوصاف الظاهرة التي تدركها الأبصار والحواس، فكلها ملحة ، زرقاء ، ذات أمواج ، وفيها الأسماك وغيرها وكيف تتمايز وهي تلتقي مع بعضها؟ والمعروف أن المياه إذا اختلطت في إناء واحد تجانست، فكيف وعوامل المزج في البحار كثيرة من مد وجزر وأمواج وتيارات وأعاصير ؟ والآية تذكر اللقاء بين بحرين ملحين يختلف كل منهما عن الآخر، إذ لو كان البحران لا يختلف أحدهما عن الآخر لكانا بحراً واحداً ، ولكن التفريق بينهما في اللفظ القرآني دال على اختلافٍ بينهما مع كونهما ملحين. و ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان﴾ِ أي أن البحرين مختلطان، وهما في حالة ذهاب وإياب واختلاط واضطراب في منطقة الالتقاء، كما تدل اللغة على ذلك بلفظ مرج، وهذا ما كشفه العلم من وصف لحال البرزخ الذي يكون متعرجاً ومتنقلاً في الفصول المختلفة بسبب المد والجزر والرياح . ومن يسمع هذه الآية فقط ، يتصور أن امتزاجاً واختلاطاً كبيراً يحدث بين هذه البحار يفقدها خصائصها المميزة لها، ولكن العليم الخبير يقرر في الآية بعدها ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ﴾ أي ومع حالة الاختلاط والاضطراب هذه التي توجد في البحار، فإن حاجزاً يحجز بينهما يمنع كلاً منهما أن يطغى ويتجاوز حده . وهذا ما شاهده الإنسان بعدما تقدم في علومه وأجهزته ، فقد وجد ماء ثالثاً حاجزاً بين البحرين يختلف في خصائصه عن خصائص كل منهما . ومع وجود البرزخ فإن ماء البحرين المتجاورين يختلط ببطء شديد، ولكن دون أن يبغي أحد البحرين على الآخر بخصائصه؛ لأن البرزخ منطقة تقلب فيها المياه العابرة من بحر إلى آخر لتكتسب المياه المنتقلة بالتدريج صفات البحر الذي ستدخل إليه، وتفقد صفات البحر الذي جاءت منه وبهذا لا يبغي بحر على بحر آخر بخصائصه، مع أنهما يختلطان أثناء اللقاء، وصدق الله القائل ﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ19بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ20﴾ (الرحمن:19-20). ولقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن الحاجز الذي يفصل بين البحرين المذكورين هو حاجز من قدرة الله لا يرى. وقد أشكل على بعض المفسرين الجمع بين اختلاط مياه البحار مع وجود البرزخ، إذ أن وجود البرزخ الحاجز يقتضي منع الاختلاط، وذكر الاختلاط مرج يقتضي عدم وجود البرزخ ، وقد زال الإشكال اليوم باكتشاف أسرار البحر على حقائقها . أوجه الإعجاز في الآيات السابقة : مما سبق يتبين : 1- أن القرآن الكريم الذي أنزل قبل أكثر من 1400سنة قد تضمن معلومات دقيقة عن ظواهر بحرية لم تكتشف إلا حديثاً بواسطة الأجهزة المتطورة، ومن هذه المعلومات وجود حواجز مائية بين البحار، قال تعالى: ﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ19بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ20﴾ (الرحمن:19-20). 2- يشهد التطور التاريخي في سير علوم البحار بعدم وجود معلومات دقيقة عن البحار وبخاصة قبل رحلة تشالنجر عام 1873م فضلاًعن وقت نزول القرآن قبل ألف وأربعمائة سنةالذي نزل على نبيٍ أمي عاش في بيئةصحراويةولم يركب البحر. 3- كما أن علوم البحار لم تتقدم إلا في القرنين الأخيرين وخاصة في النصف الأخير من القرن العشرين. وقبل ذلك كان البحر مجهولاً مخيفاً تكثر عنه الأساطير والخرافات ، وكل ما يهتم به راكبوه هو السلامة والاهتداء إلى الطريق الصحيح أثناء رحلاتهم الطويلة ، وما عرف الإنسان أن البحار الملحة بحار مختلفة إلا في الثلاثينات من هذا القرن، بعد أن أقام الدارسون آلاف المحطات البحرية لتحليل عينات من مياه البحار ، وقاسوا في كل منها الفروق في درجات الحرارة ، ونسبة الملوحة ، ومقدار الكثافة، ومقدار ذوبان الأوكسجين في مياه البحار في كل المحطات فأدركوا بعدئذٍ أن البحار الملحة متنوعة. 4- وما عرف الإنسان البرزخ الذي يفصل بين البحار الملحة، إلا بعد أن أقام محطات الدراسة البحرية المشار إليها ، وبعد أن قضى وقتاً طويلاً في تتبع وجود هذه البرازخ المتعرجة المتحركة، التي تتغير في موقعها الجغرافي بتغير فصول العام. 5- وما عرف الإنسان أن مائي البحرين منفصلان عن بعضهما بالحاجز المائي، ومختلطان في نفس الوقت إلا بعد أن عكف يدرس بأجهزته وسفنه حركة المياه في مناطق الالتقاء بين البحار، وقام بتحليل تلك الكتل المائية في تلك المناطق. 6- وما قرر الإنسان هذه القاعدة على كل البحار التي تلتقي إلا بعد استقصاء ومسح علمي واسع لهذه الظاهرة التي تحدث بين كل بحرين في كل بحار الأرض . hهل كان يملك رسول الله r تلك المحطات البحرية،وأجهزة تحليل كتل المياه،والقدرةعلى تتبع حركةالكتل المائيةالمتنوعة ؟ h وهل قام بعملية مسح شاملة ، وهو الذي لم يركب البحر قط ، وعاش في زمن كانت الأساطير هي الغالبة على تفكير الإنسان وخاصة في ميدان البحار ؟ h وهل تيسر لرسول الله r في زمنه من أبحاث وآلات ودراسات ما تيسر لعلماء البحار في عصرنا الذين اكتشفوا تلك الأسرار بالبحث والدراسة ؟ h إن هذا العلم الذي نزل به القرآن يتضمن وصفاً لأدق الأسرار في زمنٍ يستحيل على البشر فيه معرفتها ليدلُ على مصدره الإلهي، كما قال تعالى﴿ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ (الفرقان:6) h كما يدل على أن الذي أنزل عليه الكتاب رسول يوحى إليه وصدق الله القائل ﴿سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ (فصلت:53). وصف القرآن الناصية بأنها كاذبة خاطئة كما قال تعالى: ﴿ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴾ (العلق:16). والناصية لا تنطق فكيف يسند إليها الكذب ؟ ولا تجترح الخطايا فكيف تسند إليها الخطيئة؟لقد أزال البروفيسور محمد يوسف سكر عني هذه الحيرةعندما كان يحدثني عن وظائف المخ فقال : إن وظيفة الجزء من المخ الذي يقع في ناصية الإنسان هي توجيه سلوك الإنسان فقلت له : وجدتها ! قال : ماذا وجدت ؟ قلت : وجدت تفسير قوله تعالى : ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴾ فقال : دعني أراجع كتبي ومراجعي . وبعد مراجعته لتلك الكتب والمراجع ، أكد الأمر وقال : إن الإنسان إذا أراد أن يكذب فإن القرار يتخذ في الفص الجبهي للمخ الذي هو جبهة الإنسان وناصيته ، وإذا أراد الخطيئة فإن القرار كذلك يتخذ في الناصية . ثم عرضت الموضوع على عددٍ من العلماء المتخصصين، منهم البرفسور كيث إل مور الذي أكد أن الناصية هي المسئولة عن المقايسات العليا وتوجيه سلوك الإنسان، وما الجوارح إلا جنود تنفذ هذه القرارات التي تتخذ في الناصية؛ لذلك فالقانون في بعض الولايات الأمريكية يجعل عقوبة كبار المجرمين الذي يرهقون أجهزة الشرطة هي استئصال الجزء الأمامي من المخ الناصية، لأنه مركز القيادة والتوجيه ليصبح المجرم بعد ذلك كطفلٍ وديع يستقبل الأوامر من أي شخص. وبدراسة التركيب التشريحي لمنطقة أعلى الجبهة وجد أنها تتكون من أحد عظام الجمجمة المسمى العظم الجبهي، ويقوم هذا العظم بحماية أحد فصوص المخ والمسمى الفص الأمامي أو الفص الجبهي، وهو يحتوي على عدة مراكز عصبية تختلف فيما بينها من حيث الموقع والوظيفة . وتمثل القشرة الأمامية الجبهية الجزء الأكبر من الفص الجبهي للمخ، وترتبط وظيفة القشرة الأمامية الجبهية بتكوين شخصية الفرد، وتعتبر مركزاً علوياً من مراكز التركيز والتفكير والذاكرة، وتؤدي دوراً منتظماً لعمق إحساس الفرد بالمشاعر، ولها تأثير في تحديد المبادأة والتمييز . وتقع القشرة مباشرة خلف الجبهة أي أنها تختفي في عمق الناصية، وبذلك تكون القشرة الأمامية الجبهية هي الموجه لبعض تصرفات الإنسان التي تنم عن شخصيته مثل الصدق والكذب والصواب والخطأ ... الخ، وهي التي تميز بين هذه الصفات وبعضها البعض وهي التي تحث الإنسان على المبادأة سواءً بالخير أو بالشر. وعندما قدم البرفسور كيث إل مور البحث المشترك بيني وبينه حول الإعجاز العلمي في الناصية، في مؤتمر دولي عقد في القاهرة، لم يكتف بالحديث عن وظيفة الفص الجبهي في المخ الناصيةعند الإنسان، بل تطرق إلى بيان وظيفة الناصية في مخاخ الحيوانات المختلفة ، وقدم صورا للفصوص الجبهية في عدد من الحيوانات قائلاً : إن دراسة التشريح المقارن لمخاخ الإنسان والحيوان تدل على تشابه في وظيفة الناصية ، فالناصية هي مركز القيادة والتوجيه عند الإنسان وكذلك عند كل الحيوانات ذوات المخ، فلفت قوله ذلك انتباهي إلى قوله تعالى﴿ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾(هود:56) و تذكرت أيضاً بعض أحاديث النبي r في الناصية كقوله( اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ ) وكقوله ( أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ ) وكقوله ( الْخَيْلُ معقود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) فإذا جمعنا معاني هذه النصوص نستنتج أن الناصية هي مركز القيادة والتوجيه لسلوك الإنسان، وكذا سلوك الحيوان . المعاني اللغوية للآية وأقوال المفسرين : قال تعالى: ﴿كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ15نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ16﴾ (العلق:15-16). السفع : هو القبض والجذب، وقيل هو مأخوذ من سفع النار، والشمس إذا غيرت وجهه إلى السواد. الناصية : هي مقدم الرأس. أقوال المفسرين : ذهب جمهور المفسرين إلى تأويل الآية بأن وصف الناصية بالكذب والخطيئة ليس وصفاً لها بل هو وصف لصاحبها، وأمرّها الباقون كما هي بدون تأويل مثل الحافظ ابن كثير . ويتضح من أقوال المفسرين رحمهم الله عدم علمهم بأن الناصية هي مركز اتخاذ القرار بالكذب أو الخطيئة ، فحملهم ذلك على تأويلها بعيداً عن ظاهر النص ، فالنص يصفها بالكذب والخطيئة ، وهم أولوا وصفها بذلك ، فجعلوه وصفاً لصاحبها ، فأولوا الصفة والموصوف في قوله تعالى ﴿ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴾ كما لو كانت مضافاً ومضاف إليه، والفرق واضح في اللغة بين الصفة والموصوف والمضاف والمضاف إليه. وأمرّ آخرون من المفسرين الآية كما هي ، دون أن يقحموا أنفسهم فيما لا تطيقه معارفهم وعلومهم في ذلك الزمان . أوجه الإعجاز العلمي : h يقول البرفسور كيث إل مور مستدلاً على هذه المعجزة العلمية : إن المعلومات التي نعرفها عن وظيفة المخ لم تذكر طوال التاريخ، ولا نجد في كتب الطب عنها شيئاً، فلو جئنا بكتب الطب كلها في عهد النبي r وبعده بقرون لن نجد ذكراً لوظيفة الفص الجبهي الأمامي الناصية ولن نجد له بياناً ، ولم يأت الحديث عنه إلا في هذا الكتاب القرآن الكريم، مما يدل على أن هذا من علم الله جل وعلا الذي أحاط بكل شئ علماً، ويشهد بأن محمداً رسول الله . h ولقد كانت بداية معرفة الناس بوظيفة الفص الأمامي الجبهي في عام 1842م ، حين أصيب أحد عمال السكك الحديد في أمريكا بقضيب اخترق جبهته، فأثر ذلك في سلوكه ولم يضر بقية وظائف الجسم، فبدأت معرفة الأطباء بوظيفة الفص الجبهي للمخ، وعلاقته بسلوك الإنسان. h وكان الأطباء يعتقدون قبل ذلك أن هذا الجزء من المخ الإنساني منطقة صامته لا وظيفة لها. فمن أعلم محمد r بأن هذا الجزء من المخ الناصية هو مركز القيادة للإنسان والدواب وأنه مصدر الكذب والخطيئة . h لقد أضطر أكابر المفسرين إلى تأويل النص الظاهر بين أيديهم لعدم إحاطتهم علماً بهذا السر، حتى يصونوا القرآن من تكذيب البشر الجاهلين بهذه الحقيقة طوال العصور الماضية، بينما نرى الأمر في غاية الوضوح في كتاب الله وسنة رسوله r في أن الناصية هي مركز القيادة والتوجيه في الإنسان والدواب. فمن أخبر محمد r من بين كل أمم الأرض بهذا السر وبهذا الحقيقة؟!إنه العلم الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو شهادةمن الله بأن القرآن من عنده،لأنه نزل بعلمه سبحانه. 3- " والجبال أوتاداً " قال تعالى : ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا6وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا7﴾ (النبأ:6-7) . تشير الآية إلى أن الجبال أوتاد للأرض ، والوتد يكون منه جزء ظاهر على سطح الأرض ، ومعظمه غائر فيها ، ووظيفته التثبيت لغيره . بينما نرى علماء الجغرافيا والجيولوجيا يعرفون الجبل بأنه: كتلة من الأرض تبرز فوق ما يحيط بها، وهو أعلى من التل. ويقول د. زغلول النجار: إن جميع التعريفات الحالية للجبال تنحصر في الشكل الخارجي لهذه التضاريس، دون أدنى إشارة لامتداداتها تحت السطح، والتي ثبت أخيراً أنها تزيد على الارتفاع الظاهر بعدة مرات. ثم يقول: ولم تكتشف هذه الحقيقة إلا في النصف الأخير من القرن التاسع عشر عندما تقدم السيرجورج ايري بنظرية مفادها أن القشرة الأرضية لا تمثل أساساً مناسباً للجبال التي تعلوها، وافترض أن القشرة الأرضية وما عليها من جبال لا تمثل إلا جزءاً طافياً على بحر من الصخور الكثيفة المرنة ، وبالتالي فلا بد أن يكون للجبال جذور ممتدة داخل تلك المنطقة العالية الكثافة لضمان ثباتها واستقرارها.وقد أصبحت نظرية ايري حقيقة ملموسة مع تقدم المعرفة بتركيب الأرض الداخلي عن طريق القياسات الزلزالية، فقد أصبح معلوماً على وجه القطع أن للجبال جذوراً مغروسة في الأعماق ويمكن أن تصل إلى ما يعادل 15مرة من ارتفاعاتها فوق سطح الأرض، وأن للجبال دوراً كبيراً في إيقاف الحركة الأفقية الفجائية لصفائح طبقة الأرض الصخرية. هذا وقد بدأ فهم هذا الدور في إطار تكتونية الصفائح منذ أواخر الستينيات.ويعرف الدكتور زغلول الجبال في ضوء المعلومات الحديثة فيقول إن الجبال ما هي إلا قمم لكتل عظيمة من الصخور تطفو في طبقة أكثر كثافة كما تطفو جبال الجليد في الماء ,ولقد وصف القرآن الجبال شكلاً ووظيفة، فقال تعالى﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ (النبأ:7)وقال تعالى ﴿ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ (لقمان:10) وقال أيضاً: ﴿ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ (الأنبياء:31) والجبال أوتاد بالنسبة لسطح الأرض، فكما يختفي معظم الوتد في الأرض للتثبيت، كذلك يختفي معظم الجبل في الأرض لتثبيت قشرة الأرض . وكما تثبت السفن بمراسيها التي تغوص في ماء سائل ، فكذلك تثبت قشرة الأرض بمراسيها الجبلية التي تمتد جذورها في طبقةٍ لزجةٍ نصف سائلة تطفو عليها القشرة الأرضية.ولقد تنبه المفسرون رحمهم الله إلى هذه المعاني فأوردوها في تفسيرهم لقوله تعالى: ﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ ، واليك أمثلة من ذلك : 1- قال ابن الجوزي : ﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ للأرض لئلا تميد . 2- وقال الزمخشري ﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾: أي أرسيناها بالجبال كما يرس البيت بالأوتاد. 3- وقال القرطبي : ﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ أي لتسكن ولا تتكفأ بأهلها . 4- وقال أبو حيان: ﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ أي ثبتنا الأرض بالجبال كما يثبت البيت بالأوتاد. 5- وقال الشوكاني: ﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ الأوتاد جمع وتد أي جعلنا الجبال أوتاداً للأرض لتسكن ولا تتحرك كما يرس البيت بالأوتاد . أول الجبال خلقاً البركانية : عندما خلق الله القارات بدأت في شكل قشرةٍ صلبةٍ رقيقة تطفو على مادة الصهير الصخري ، فأخذت تميد وتضطرب، فخلق الله الجبال البركانية التي كانت تخرج من تحت تلك القشرة ، فترمي بالصخور خارج سطح الأرض ، ثم تعود منجذبةً إلى الأرض وتتراكم بعضها فوق بعض مكونة الجبال ، وتضغط بأثقالها المتراكمة على الطبقة اللزجة فتغرس فيها جذراً من مادة الجبل ، الذي يكون سبباً لثبات القشرة الأرضية واتزانها . وفي قوله تعالى : ﴿… وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ … ﴾ (لقمان:10) إشارة إلى الطريقة التي تكونت بها الجبال البركانية بإلقاء مادتها من باطن الأرض إلى الأعلى ثم عودتها لتستقر على سطح الأرض . ويجلي حديث الرسول r هذه الكيفية ، فقد روى أنس بن مالك عن النبي rأنه قال : ( لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ ، فَخَلَقَ الْجِبَالَ فَعَادَ بِهَا عَلَيْهَا .. الحديث ).فتأمل في قول النبي r المبين لكيفية خلق الجبال : "فعاد بها عليها"، أي أن خلقها كان بخروجها من الأرض وعودتها عليها. أوجه الإعجاز : إن من ينظر إلى الجبال على سطح الأرض لا يرى لها شكلاً يشبه الوتد أو المرساة، وإنما يراها كتلاً بارزة ترتفع فوق سطح الأرض، كما عرفها الجغرافيون والجيولوجيون. ولا يمكن لأحدٍ أن يعرف شكلها الوتدي ، أو الذي يشبه المرساة إلا إذا عرف جزءها الغائر في الصهير البركاني في منطقة الوشاح، وكان من المستحيل لأحدٍ من البشر أن يتصور شيئاً من ذلك حتى ظهرت نظرية سيرجورج ايري عام 1855م . فمن أخبر محمداً r بهذه الحقيقة الغائبة في باطن القشرة الأرضية وما تحتها على أعماق بعيدة تصل إلى عشرات الكيلومترات ، قبل معرفة الناس لها بثلاثة عشر قرناً ؟ ومن أخبر محمداً r بوظيفة الجبال ، وأنها تقوم بعمل الأوتاد والمراسي، وهي الحقيقة التي لم يعرفها الإنسان إلا بعد عام 1960م ؟ وهل شهد الرسول r خلق الأرض وهي تميد ؟ وتكوين الجبال البركانية عن طريق الإلقاء من باطن الأرض وإعادتها عليها لتستقر الأرض ؟ ألا يكفي ذلك دليلاً على أن هذا العلم وحي أنزله الله على رسوله النبي الأمي في الأمة الأمية ، في العصر الذي كانت تغلب عليه الخرافة والأسطورة ؟إنها البينة العلمية الشاهدة بأن مصدر هذا القرآن هو خالق الأرض والجبال ، وعالم أسرار السموات والأرض القائل : ﴿ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ (الفرقان:6). نخرج منه حباً متراكباً قدر الله سبحانه وتعالى أن تعتمد النباتات وكذا الإنسان والحيوانات في غذائها على ما ينتجه النبات في مصانعه الخضراء. وهذه المصانع الخضراء يخرجها النبات بأمر ربه عند بداية نموه وتسمى في كتب العلوم النباتية "البلاستيدات الخضراء" والتي تحتوي على الكلوروفيل الذي عبّر عنه القرآن بالخضر(1)حيث يقوم بالاستفادة من الطاقة الضوئية ويحولها إلى طاقة كيمائية ينتج عنها تكوين الحبوب والثمار المختلفة وسائر أجزاء النبات التي نراها في الحدائق والبساتين . ويدلنا القرآن على هذه الحقائق في قوله تعالى : ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ (الأنعام:99). التفسير والمعنى اللغوي : وهو الذي أنزل من السماء ماءً : أي المطر . فأخرجنا به نبات كل شئ : أي فأخرجنا بالمطر كل صنف من النبات . فأخرجنا منه : أي من الماء وقيل من النبات . خضراً : أي شيئاً غضاً أخضر .(2) نخرج منه : أي من الخضر.(3) حباً متراكبا : أي بعضه على بعض . ومن النخل من طلعها(4) : الطلع: غلاف يشبه الكوز ينفتح عن حبّ منضود فيه مادة إخصاب النخلة . قنوان : جمع قنو وهو العذق الذي هو عنقود النخل . وجنات من أعناب : أي وأخرجنا جنات من أعناب . والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه : مشتبهاً ورقها مختلفاً ثمرها (5)، وقيل متشابه في المنظر مختلف في المطعم (6). انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه : أي انظروا بأعينكم نظر اعتبار لا نظر الإبصار المجرد عن التفكير ، ونبه على حالين الابتداء وهو وقت ابتداء الإثمار والانتهاء وهو وقت نضجه ، أي كيف يخرجه ضئيلاً لا يكاد ينتفع به وكيف يعود نضيجاً مشتملاً على منافع(7) ، والثمر في اللغة : جنى الشجر . وينعه : نضجه ، يقال : ينع وأينع إذا نضج . وقال ابن العربي: قال مالك : الإيناع الطيب بغير فساد ولا نقش ، قال مالك : والنقش أن ينقش أهل البصرة الثمر حتى يرطب. يريد : يثقب فيه بحيث يسرع دخول الهواء إليه فيرطب معجلاً ، فليس ذلك الينع المراد في القرآن وإنما هو ما يكون من ذاته بغير محاولة (8). إذاً فهذه المصانع الخضراء تخرج من النبات عند بدء نموه، والنبات يخرجه الماء من بذوره وأصوله. فالله سبحانه وتعالى أنزل من السماء ماءً ، فأخرج به نبات كل شئ ، وأخرج من النبات هذه المصانع الخضراء التي منها تخرج المواد الغذائية التي تتكون منها الحبوب والثمار بل وسائر أجزاء النبات . لكن هذه الحقيقة جهلتها البشرية ، ولم تعرفها إلا بعد بحث استغرق ثلاثمائة عام ، بداية من عام 1600م ، حيث أجرى علماء فسيولوجيا النبات "علم وظائف الأعضاء" أبحاثاً وتجارب كثيرة لمعرفة عملية البناء الضوئي . ففي عام 1804م نشر "دي سواسير" أن هناك نوعين من التبادل الغازي، أحدهما يحدث في الضوء والآخر في الظلام، وأن الأجزاء الخضراء هي التي تمتص ثاني أكسيد الكربون وتطلق الأوكسجين في الضوء "(9). واستمرت الاكتشافات المتواصلة في هذا المجال . وفي عام 1942م قال "ماير": إن المصدر النهائي للطاقة المستخدمة في كل من النبات والحيوان هي الشمس وإن الطاقة الضوئية عندما تمتص في النباتات تتحول إلى طاقة كيماوية عن طريق التمثيل الضوئي "(10). وقال جلاس 1961م إن المركبات الأكثر أهمية في تحويل الطاقة الضوئية إلى طاقة كيميائية في النبات هي الصبغات التي توجد داخل البلاستيدات الخضراء " أو حاملات الصبغات"(11) . ويبدأ النبات عملية التمثيل الضوئي من خلال هذه المكونات والعضيات. وينشأ من ذلك كله خلق المواد الكربوهيدراتية والتي تدخل في عمليات حيوية معقدة ينتج عنها بناء خامات الجدار الخلوي والأحماض النووية والبروتينات والدهون والهرمونات النباتيةوالصبغات..الخ،وهذه المواد هي أساس تكوين جميع أجزاء النباتات والتي يتغذى عليها الإنسان والحيوانات. أوجه الإعجاز :- إن
العلماء الباحثين في مجال فسيولوجيا النبات اكتشفوا أن المادة الخضراء
"الخضر"
هي
التي تقوم بامتصاص الطاقة الضوئية ، وتحويلها إلى طاقة كيماوية ينتج عنها
تكوين الثمار المختلفة .وكان هذا الاكتشاف بعد دراسات متواصلة ، وتجارب
متنوعة استغرقت قروناً ثلاثة امتدت إلى القرن العشرين . إن هذه العملية في
تكوين الحبوب والثمار والأشجار كانت سراً مجهولاً يختفي في أعماق الثيلاكويد
داخل البلاستيدة الخضراء التي لا ترى بالعين المجردة ، عرفها علماء النبات
بعد سلسلة طويلة من البحوث والدراسات المتواصلة التي تجند لها العلماء طوال
بضعة قرون . وبعد أن توافرت لهم وسائل البحث العلمي الدقيقة قرروا في نهاية
المطاف: أن في النبات مادة خضراء ، وأن هذه المادة الخضراء تخرج المواد
الكربوهيدراتية التي هي أساس لتكوين جميع المواد المكونة للثمار والأشجار
والزروع .وهذا ما قرره القرآن الكريم قبل ألف وأربعمائة عام ، على لسان نبي
أمي ، عاش في بيئة صحراوية ، وفي أمة أمية وفي عصر لم تتوافر فيه آلات البحث
العلمي . ولقد كان بالإمكان أن تغفل الآية الكريمة ذكر المادة الخضراء ولن
يعترض أحد على ذلك الإغفال إلا من يعلم الدور الأساس لتلك المادة، غير أن
ذكرها يدل على علم القائل بأنها صاحبة الدور الرئيس في تكوين وإنتاج الحبوب
والثمار وسائر الأشجار والزروع. ومن عظمة القرآن الكريم أن يذكر الحقيقة وأن
يأخذ بأيدي الناس للوقوف على أول الطريق لمن أراد معرفة السر فيقول: "انظروا
إلى ثمره إذا أثمر وينعه"، فهو يوجه النظر إلى بداية تكون الثمرة وعلاقتها
بالإيناع الذي يتوقف عنده إنتاج تلك الثمار بسبب اصفرار أوراق بعض النباتات
وموت خلاياها . فمن أخبر محمداً r
بهذه الحقيقة ؟وهو النبي الأمي الذي عاش في تلك البيئة الأمية ، وفي زمان لم
توجد فيه أبسط الأجهزة فضلاً عن امتلاك ما تتطلبه معرفة هذه الحقائق من
الأجهزة المتطورة ومراكز ومعامل الأبحاث في مجال فسيولوجيا النبات .
إن
اشتمال القرآن على هذه المعلومات النباتية الدقيقة يشهد أنه من عند الله
القائل﴿ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ
أَنْزَلَهُ بِعِلْمِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى
بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ (النساء:166)
معنى شهادة أن محمداً رسول الله ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله ، هو إعلان جازم منك أيها المؤمن لاشك فيه ولا ريب أن محمداً r رسول من الله إلى الناس كافة ، وهذه الشهادة لها لوازم ومقتضيات من أهمها مايلي : أ- الإيمان بصدقه r وصدق رسالته قال تعالى ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ (الأحزاب:40). وقال تعالى﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى3إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى4﴾ (النجم:3-4). وقال تعالى ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ (سبأ:28). وقال تعالى ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ (الأنبياء:107). هذه الآيات تعلن عن نبوة محمد r ورسالته التي تلقاها من ربه فصدق بها هو نفسه وحملها إلى أمته فصدقوه كما قال تعالى : ﴿ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ (الزمر:33)(12).فهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ، الذي ختم الله به الرسالة وجعله رحمة للناس . وقال r : ( وكان النبيُ يُبعثُ في قومهِ خاصةً وبُعِثتُ إلى الناسِ عامةً )(13). فبرسالته تقوم الحجة على الناس جميعاً كما قال r: ( والذي نَفْسي بيدهِ لا يسمعُ بي أحد منْ هذهِ الأمةِ يهوديُُ ولا نصراني ثم يموتُ ولم يؤمنْ بالذي أُرْسِلْتُ بِهِ إلا كان مِنْ أصحابِ النار )(14). والمقصود بالأمة في الحديث أمة الدعوة التي أرسل إليها الرسول وهم البشر جميعاً، وهي تختلف عن أمة الإجابة التي استجابت للرسول r وآمنت به . ب- محبته صلى الله عليه وسلم : محبة النبي r من أصول الإيمان وهي تابعة لمحبة الله عزوجل ، وجاءت في كتاب الله مقترنة بمحبته سبحانه ، كما توعدت الآيات من قدم أي شئٍ من المحبوبات على محبة الله ورسوله كما قال تعالى : ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ (التوبة:24). وقال r: ( ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الْإِيمَانِ : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ )(15). وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله r: (لايؤمنُ أحُدكُمْ حتى أكونَ أحبَّ إليهِ منْ والدهِ وولدهِ والناسِ أجمعين )(16). ولما قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم ( أنت أحب إلي من كل شئ إلا من نفسي، فقال: لا يا عمر حتى أكونَ أحبَّ إليكَ من نفسِك ، فقال عمر:والله أنت الآن أحب إلي من نفسي ، قال : الآنَ يا عمر)(17). ومحبة الرسول تنشأ من معرفة عظمة الله الخالق سبحانه الذي أرسله ، ومن معرفته ومعرفة كماله وأوصافه وعظيم ما جاء به r. هذا ومحبة الرسول على درجتين : إحداهما : الحب الواجب وهو ما اقتضى طاعته في امتثال ما أمر به من الواجبات والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات، وتصديقه فيما أخبر به من المخبرات، والرضا بذلك . الثانية : فضل مندوب ، وهي ما ارتقى بعد ذلك إلى اتباع سنته وآدابه وأخلاقه ، والاقتداء به في هديه وسمته وحسن معاشرته لأهله وإخوانه وسائر الناس.(18) ولقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة في صدق وتمام المحبة لرسول الله r ، وبذلوا دماءهم وأموالهم رخيصةً في سبيل نصر دينهم والذب عنه والدفاع عن نبيهم محمد r . سئل على بن أبي طالب رضي الله عنه : كيف كان حبكم لرسول الله r ؟ قال : كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ . وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول :- ما كان أحد أحب إلى من رسول الله r ولا أجل في عيني منه(19). ومن محبته r محبة سنته وما جاء به ، وكذلك محبة أهل بيته وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين . ج- اتباعه صلى الله عليه وسلم وطاعته والاقتداء به لقد جعل الله طاعة رسوله من طاعته سبحانه فقال سبحانه ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ … ﴾ (النساء:80). وجعل سبحانه طاعة الرسول سبباً للهداية فقال : ( وَإنْ تُطِيعوهُ تَهْتَدوا ) (النور:54). وجعل طاعة رسوله علامةً على محبته وسبباً لمحبة الله للعبد وغفران ذنبه قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (آل عمران:31). قال الحسن البصري وغيره من السلف: ادعى قوم محبة الله فابتلاهم الله بهذه الآية(20). ومعنى ذلك أنه بالمتابعة والطاعة يتبين صدق المحبة من عدمها.كما قرن الله طاعة الرسول بطاعته فقال ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ …﴾ (النور:54). وجعل طاعة الرَّسول مع طاعة الله سبباً لِلّحاق بمن أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصّالحين فقال تعالى: ﴿ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ (النساء:69). ولقد حثنا الله في كتابه على التأسي برسول الله r فقال سبحانه ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ (الأحزاب:21). وقال r: ( كُلُ أُمتي يدخلونَ الجنةَ إلا مَن أَبَى ، قالوا : وَمَن يَأْبى يا رسولَ اللهِ قال: مَنْ أطاعني دخلَ الجنةَ ومن عصاني فقدْ أَبىَ )(21). ولقد كان الصحابة أشد الناس حرصاً على اتباع النبي r فروى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : اتخذ النبي r خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب فقال النبي r : إني اتخذتُ خاتماً من ذهب ، فنبذه وقال : إني لن ألبسَه أبداً ، فنبذ الناس خواتيمهم(22). د- التسليم لما جاء به صلى الله عليه وسلم إن من يؤمن بصدق رسالة محمدٍ r يعلم أن الفوز برضا الله ونعيم الجنة مرهون بالاتباع والتسليم الكامل لما جاء به الرسول، وهذا الاتباع والتسليم دليل على صدق الإيمان كما قال تعالى ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ (النساء:65). وقال تعالى : ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (النور:51). وقال تعالى: ﴿وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ (الحشر:7). وحذر الرسول r من الذين يردون هديه ويرفضون سنته الشارحة والمبينة لكتاب الله بدعوى أنهم لا يجدون تلك السنة في كتاب الله . فقال r : ( لا أُلْفِيَنّ أَحَدَكُمْ مُتَكِئاً على أَرِيكَتِهِ يأتيهِ الأمرُ ممّا أمرتُ بهِ أوْ نهيتُ عنهُ ، فيقولُ : لا أدري ! ما وجدنا في كتابِ اللهِ اتبعناه )(23) . وقد قرر العلماء أن الرأي المذموم هو ما كان معارضاً لما جاء به الرسول r .قال ابن القيم رحمه الله : وأما الأدب مع رسول الله r فالقرآن مملوء به، فرأس الأدب معه : كمال التسليم له ، والانقياد لأمره ، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يُحَمِّله معارضة خيالٍ باطل يسميه معقولاً ، أو يُحَمِّله شبهةً أو شكاً ، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم … ولا يحاكم إلى غير الرسول ، ولا يرضى بحكم غيره ولا يقف تنفيذ أمره ، وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه ، وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه ، فإن أذنوا له نفذه وقبل خبره ، وإن طلب السلامة أعرض عن أمره وخبره وفَوّضه إليهم ، وإلا حرّفه عن مواضعه ، وسمى تحريفه تأويلاً وحملاً فقال : نُؤَوّله ونَحْمِلُه ! ومن الأدب معه أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي حتى يأمر هو وينهى ويأذن كما قال تعالى ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(الحجرات:1).وهذا باق إلى يوم القيامة ولم ينسخ فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته ، كالتقدم بين يديه في حياته ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم . ومن الأدب معه أن لا ترفع الأصوات فوق صوته ؛ فإنه سبب لحبوط الأعمال ، فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به ؟! ومن الأدب معه : أن لا يُستَشْكل قَوْلُه ، بل تُستَشْكل الآراءُ لِقَوِلهِ ، ولا يعارضُ نَصُّه بقياس ، بل تُهدرُ الأَقْيِسةُ وتُلقى لنصوصه(24). هـ- ترك الابتداع يقول الله جل وعلا : ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا…﴾ (المائدة:3) فهذه الآية قد بينت أن الدين قد كمل بما جاءنا من كتابٍ وسنةٍ ، وعليه فلا حاجة لإضافة شئٍ إلى الدين غير ما جاءنا من الخالق سبحانه ، الذي من حقه وحده أن يشرع الدين ، فكما خلق الله الناس وحده ، فهو الذي يشرع لهم الدين وحده ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ …﴾ (الشورى:21). فلا دين إلا ما أذن الله به ، والذي أذن الله به قد اكتمل ، فمن ابتدع في دين الله فبدعته مردودة عليه كما قال عليه الصلاة والسلام: ( مَنْ أَحْدَثَ في أمرِنا هذا ما ليسَ مِنْهُ فَهو رَدّ )(25). وفي رواية : (من عملَ عملاً ليسَ عليه أمرُنا فَهو رَدّ ) (26) ولقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من اتباع البدع فقال : … فإنّه مَنْ يَعِشْ مِنْكُم بَعْدي فَسيرى اختلافاً كثيراً فعَلَيْكُم بِسُنَّتي وسُنَّةِ الخلفاءِ المهديين الراشدين تمسكوا بها وعَضّوا عليها بِالنَّواجِذِ(27)، وإيّاكُمْ ومُحْدَثاتِ الأُمورِ ، فإنّ كُلَّ محدثةٍ بدعةُُ، وَ كُلَّ بدعةٍ ضَلالةُُ(28). وكان النبي r يقول في خُطَبِهِ : ( أمّا بعدُ فإنّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ ، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ ، وشرَّ الأُمورِ مُحْدَثَاتُها ، وكُلَّ بِدْعةٍ ضلالةُُ) (29). و- الانتصار لدين الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وقد بين الله سبحانه أن طريق الفلاح للمؤمنين هو في الإيمان بالرسول وتوقيره ونصره واتباعه، فقال تعالى: ﴿ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (الأعراف:157)(30). ونصره صلى الله عليه وسلم يكون بنصر دينه وسنته ضد كل ما يعارضهما . (1) لفظة الخضر تدل على ما كانت خضرته
خلقيه . (12)
قال مجاهد وقتادة والربيع بن أنس
وابن زيد : الذي جاء بالصدق هو الرسول r ، وقال قتادة وابن زيد : والذي صدق
به المؤمنون ، انظر تفسير ابن جرير وتفسير ابن كثير للآية . (26)
هذه
الرواية لمسلم ك/ الأقضية ب/ نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور. وعلقها
البخاري ك/ الاعتصام بالكتاب والسنة ب/ إذا اجتهد العامل – أو الحاكم – فأخطأ
. |