البينة القرآنية
لقد اقتضت حكمة الله سبحانه أن يؤيد رسله ببينات
تدل على صدق رسالتهم، وأدلةٍ تقوم بها الحجة على الناس اصطلح العلماء على
تسميتها بالمعجزات، وسميت في كتاب الله بينات ،
كما قال تعالى:
[الحديد:25](1)
.
وتنوعت
البينات والمعجزات بتنوع الأقوام والأمم ، فجعل
الله لكل قوم بينة تناسب مستواهم الثقافي والفكري ليكون ذلك أبلغ في إقامة
الحجة على الناس ، ولما كان محمد rمرسلاً
إلى الناس كافة ، فقد أيده الله سبحانه ببينات
متنوعة تتناسب مع جميع من أرسل
إليهم من الأقوام ، ومع جميع الأجيال إلى قيام الساعة على اختلاف ثقافاتهم
ومداركهم .
فكانت الفصاحة والبلاغة من بيناته المناسبة للعرب
الفصحاء البلغاء .
ومن
بيناته ما يتناسب مع أهل الأديان كالبشارات به في الكتب السابقة .
ومن
بيناته ما عجز أهل الأنظمة والقوانين عن المجيء
بمثله من تشريعات حكيمة تناسب جميع البيئات والعصور .
ومن
البينات الخوارق المشاهدة كخارقة انشقاق القمر
التي سجلت عند بعض الأمم ولاتزال آثارها ظاهرة إلى
اليوم .
ومنها معجزة الإخبار بالغيب الماضي والحاضر والمستقبل ، والتي لا تزال تنكشف
إلى يومنا هذا .
ومنها الخوارق للعادة التي دونت في أوثق سجل عرفه البشر ، وهو القرآن الكريم
والحديث النبوي .
ومنها ما يتناسب مع أهل الكشوف العلمية في عصرنا كالإعجاز العلمي في القرآن
والسنة .
وقد جعل الله سبحانه القرآن المتضمن لكثير من أنواع هذه المعجزات أكبر بينة
لمحمدj
، قال تعالى
[الأنعام:19] .
وقال النبي
j : "مَا
مِنْ الأنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ من الآيات مَا مِثْلهُ آمَنَ
عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُه وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ
أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ".(2)
يشير الحديث الشريف إلى طبيعة المعجزة في الوحي الذي أنزله الله على محمد صلى
الله عليه وآله وسلم فيبقى بعد موته ويتجدد إعجازه على مرّ العصور .
وشهادة القرآن بصدق رسالة محمد
j متمثلة بما احتوى عليه من الإعجاز
في ألفاظه ، والإعجاز في العلم الذي جاء به. قال تعالى
[النساء:166]
قال الخازن عند تفسير هذه الآية : " لكن الله يشهد لك يا محمد بالنبوة بواسطة
هذا القرآن الذي أنزله عليك " . وقال ابن كثير :
" فالله يشهد لك يا محمد بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب وهو القرآن
العظيم… ولهذا قال
أي : فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد
عليه من البينات والهدى والفرقان ، وما يحبه الله
ويرضاه وما يكرهه ويأباه ، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل".
وقال أبو العباس ابن تيمية : فإن شهادته بما أنزل إليه هي شهادته بأن الله
أنزله منه، وأنه أنزله بعلمه ، فما فيه من الخبر هو خبر عن علم الله ، وليس
خبراً عمن دونه ، وهذا كقوله
[هود:14]
وإلى
هذا المعنى ذهب كثير من المفسرين(3) .
فالبينة القرآنية تتمثل في العلم الذي تضمنته آياته ، وهو الإعجاز العلمي ،
أما ما تحمله ألفاظه وتراكيبه فهو إعجاز الفصاحة والبلاغة .
قال تعالى :
[الزمر:23]،
بين الله سبحانه أن القرآن العظيم أحسن الكلام وأجوده لأنه نزل بعلمه ، وذلك
أن الله سبحانه يعلم أي لفظة هي أدل على المعنى المقصود ، وأي لفظة تصلح أن
تليها أو تسبقها ، بل ومناسبة كل حرف لموضعه ، فجاء القرآن العظيم في غاية
الفصاحة والبلاغة في مفرداته وتراكيبه ، ومن أمثلة ذلك :
مناسبة الحرف لموضعه ومطابقة الكلمة لمدلولها :-
المثال الأول :
قول الله تعالى :
[المؤمنون:12-14]
تشير الآية الكريمة إلى ثلاث مراحل للتخلق البشري :-
المرحلة الأولى :- مرحلة النطفة .
المرحلة الثانية :- التخليق ويشمل:
أ-
العلقة .
ب- المضغة .
جـ-
العظام .
د- الكساء باللحم .
المرحلة الثالثة :- النشأة .
فاستعمل القرآن حرف العطف (ثم) للعطف بين هذه المراحل الثلاث، وهذا الحرف يدل
في لغة العرب على فاصل زمني بين المعطوف والمعطوف عليه .
واستعمل حرف العطف (الفاء) للعطف بين مراحل التخليق : العلقة ، المضغة ، العظام ، الكساء باللحم لكون حرف
العطف (الفاء) يدل في لغة العرب على الترتيب والتعاقب بين المعطوف والمعطوف عليه ، وهذا
كله مطابق تماماً لما اكتشفه علم الأجنة الحديث في مراحل التخلق البشري، حيث
وجد فاصلاً زمنياً بين المراحل الثلاث الرئيسة ، بينما اكتشف تتابعاً سريعاً
نسبياً في مراحل التخليق الأربع الفرعية .
وهناك إعجاز آخر في المفردات المعبرة أصدق تعبير عن كل طور من أطوار التخلق.
وكان من الممكن أن يختل هذا الترتيب في أسماء الأطوار، أو الأحداث المصاحبة،
أو الأحداث المرتبة دونما معارضة من أحد في زمن نزول الوحي؛ لقصور علم الأجنة
يومذاك ، وهذا كله يدلنا على أن هذا القرآن كلام
الله قد نزل بعلمه سبحانه(4)
.
المثال الثاني : قال الله تعالى
:
[النور:43] .
تذكر الآية أربعة حوادث :
الأول : إزجاء السحاب أي سوقه برفق .
الثاني : التأليف بينه .
الثالث : جعله ركاماً .
الرابع : إنزال المطر .
وفصلت الآية بين الحوادث الثلاثة الأولى : الإزجاء ، والتأليف ، والركم ، بحرف العطف (ثم) الذي يدل على استغراق زمن بين
المعطوف والمعطوف عليه
، أما الحدث الرابع فقد عطف على الثالث بحرف العطف الفاء الذي يدل على وقوع
الحدث مباشرة بعد الأول ، وقد أثبت العلم أنه بانتهاء الركم (الحدث الثالث في تكوين السحاب) ينزل المطر على
الفور .
المثال الثالث :
قال تعالى :
[الروم:48] .
تأمل في استعمال حرفي العطف الفاء والواو ، حيث يدل الفاء على الترتيب
والتعقيب ، بينما يدل الواو على مطلق الجمع .
وفي الآية استعمل كل حرف في موضعه ، ولو نقل إلى غير موضعه لأحدث خللاً في
المعنى وتناقضاً مع الواقع . * فإرسال الرياح
يعقبه إظهار السحب وتهييجها ، فاستعمل حرف العطف المناسب بين الحدثين وهو
الفاء فقال سبحانه :
[الروم:48] .
* ويعقب ذلك بسط السحب في السماء في صور متعددة ، فاستعمل الحرف المناسب
ولذلك وهو الفاء أيضاً فقال تعالى : * وفي أثناء عملية البسط تتكون قطع السحب
أفقياً ، كما تتكون رأسياً في شكل طبقات ، وتتم عملية تكوين الكسف أثناء عملية البسط وتستمر بعدها ، فكان الواو هو
حرف العطف المناسب للدلالة على مطلق الجمع بين عدد من الأحداث قال سبحانه : .
* ثم استعمل حرف العطف الذي يدل على التعقيب والترتيب، الدال على أن الحدث
التالي لا يكون إلا بعد وقوع الأول ؛ لبيان أنه لا ينزل المطر حتى يتم تكوين
الكسف من السحاب ، وهذه الكسف توجد حالة تشبع في السحاب يسمح بتكوين قطرات كبيرة
ثقيلة تنزل إلى الأرض بإذن الله ، قال سبحانه :- فتأمل كيف استعمل القرآن كل
حرف في مكانه بحيث لا يصلح أن يكون غيره في موضعه . استعمال الحرف
في المعنى الدقيق : قوله سبحانه :
[سبأ:24] .
عبر سبحانه عن الهدى بـ "على" التي تفيد الاستعلاء
، فصاحب الحق مُسْتَعْلٍ يصرف نظره كيف شاء، وعبر عن الضلال بـ "في" ، فصاحب الباطل منغمس في ضلاله لا يدري أين
يتوجه !! وهذا كقوله
سبحانه :
[التوبة:45] . وقوله :
[ق:22] . وقوله :
[الأنبياء:1] . وقوله سبحانه :
[الأنعام:110] .
بلاغة اللفظ المفرد والتركيب في القرآن الكريم :
إن إعجاز القرآن البلاغي يدرك بأثره في النفوس ، الذي يجعل الفصحاء والبلغاء
يؤخذون بأسلوبه ولفظه ومعانيه وتركيبه وسياقه
وجرسه وخطابه وبقائه جديداً لا يبلي رغم تكراره ، ولا يستطيعون الإحاطة بأسرار إعجازه ، فهو كالروح تدرك آثارها ولا
يحاط بها علماً. ومن إعجازه عدم قدرة البشر على الإحاطة بإعجازه إذ لو عرفوا ذلك لأتوا بمثله ، ولكن
علماء الفصاحة والبلاغة حاولوا التعبير عما تذوقوا من إعجازه ، وسنذكر أمثلة
مما قالوا :-
اللفظ المفرد في القرآن :
إن القرآن العظيم قد نزل بعلم الله، فلم ترتجل مفرداته ارتجالاً، فاللفظ
المفرد كما يدل على المعنى أوفى دلالة، فإنه يجمع إلى ذلك كونه أفصح لفظ يؤدي
ذلك المعنى في ذلك السياق. ولعدم استطاعتنا الإحاطة
بأوجه الفصاحة والإعجاز في كلام الله، نضرب لك هذه الأمثلة ليتبين لك الأمر. أ-
ألفاظٌ أخف من غيرها : استعمل القرآن
ألفاظاً هي أخف لفظاً من غيرها وأنسب للمعنى المقصود . فلفظ (آثرك) في
قوله تعالى :
[يوسف :91] أخف من لفظ :
أعطاك .
ولفظ أخف من لفظ : لا شكّ فيه .
ولفظ (آتى) أخف من لفظ : أعطى .
ولفظ (آمن) آخف من لفظ : صدق ، وإذا تأملت تجد
ذكره أكثر من ذكر التصديق. ولفظ
أخف من لفظ : أفضل لكم
ولفظ (تتلوا) أخف من لفظ : تقرأ . ولفظ
أخف
من لفظ : ولا تضعفوا.(5)
وحيث كانت الكلمة ثقيلة لا يكون ذلك اعتباطاً وإنما للتعبير عن ثقل المعنى
الذي تحمله ، مثل :
(اثّاقلتم): فثقل اللفظ للدلالة على معنى التثاقل الحسي للمتثبط عن الجهاد.(6)
ومثل قوله سبحانه: فثقل اللفظة بالتشديد، للدلالة على ما يفعله المثبط من
تثقيل للآخرين. ب-
ألفاظٌ أكمل في الدلالة من غيرها على المعنى المقصود :
*
لفظ "الخشية" أكمل دلالة من لفظ "الخوف" حيث ورد مثل قوله تعالى
:
[فاطر:28](7)
وفُرّق
بينهما بأن الخشية تكون من عِظَم من يُخشى منه وإن
كان الخاشي قوياً، والخوف يكون من ضعف الخائف وإن كان من يخاف منه غير قوي،
والله أعلم(8). وتأمل التفريق
في استعمال اللفظين في قوله تعالى :
[الرعد:21] ،
فالخشية متعلقة بالله سبحانه لكونها أعظم الخوف .
* لفظ "القعود"
أدل من لفظ "الجلوس" في قوله تعالى : لدلالته على عدم الزوال، لأن القعود
يستخدم لما فيه لبث وبقاء، بخلاف الجلوس فيستعمل للمكث اليسير، ولذا يقال :
قواعد البيت ولا يقال: جوالسه، كما إن لفظ الجلوس
أدل من لفظ القعود في قوله تعالى :
[المجادلة:11]
لأن المكث في المجالس لا يدوم .
*
لفظ "السنة" في لغة العرب يدل غالباً على الحول الذي فيه الشدة والجدب، بينما
لفظ "العام" يدل على الحول الذي فيه الرخاء والخِصْب ، كقوله تعالى عن نوح
عليه السلام ودعوته لقومه
[العنكبوت:14] .
حيث عبر عن لبثه فيهم بالسنة ، لأنها كانت سنوات شدة بالنسبة له عليه السلام،
بينما الخمسين التي لم تحسب من لبثه فيهم عبر عنها بالعام الدال على الرخاء
والنعمة .
ومن ذلك ما ورد في قصة يوسف عليه السلام حيث ذكر سبحانه سبع سنين تتم فيها
الزراعة ، ثم يأتي بعد ذلك سبع سنوات شديدة تستهلك المحصول السابق فقال
[يوسف:47-48] ، ثم ذكر سبحانه أنه سيأتي الغيث
للناس فعبر عنه بلفظ "العام" قال تعالى
[يوسف:49] .
*
لفظ أغطش في قوله تعالى
أدل
على المعنى المقصود من لفظ : (وأظلم) لأن لفظ أغطش
فيه مع معنى الظلمة معنى الصمت ، ومعنى ظلام السماوات مع الصمت لوجود الفراغ
لا يعطيه إلا لفظ: أغطش(9).
جـ-
الإفراد والجمع:
*
حيث جاءت "الريح" في القرآن مجموعة دل على أنها للرحمة ، وحيث جاءت مفردة دل
على أنها للعذاب. فمن الأول قوله
تعالى:
[الروم:46].
ومن الثاني قوله تعالى :
[الحاقة:6] . وخرج عن ذلك
قوله تعالى في سورة يونس
[يونس:22] . وذلك لوجهين –
والله أعلم-
الأول : لفظي ،
وهو المقابلة لقوله تعالى بعد ذلك
[يونس:22] ،
والمقابلة من فنون البلاغة ، ومع ذلك فُقِّد قيدت الريح بأنها طيبة .
الثاني : متعلق بالمعنى ، وهو أن السفينة إنما تجري باتزان إذا كانت بريح
واحدةٍ من جهة واحدة، أما لو اختلفت عليها الرياح فلربما
كان سبباً للهلاك، والمطلوب لسيرها ريح واحدة ، وقد أكد هذا المعنى بوصفها
بأنها طيبة.
*
إفراد "النور" وجمع "الظلمات" كما في قوله تعالى
[البقرة:257]
فالظلمات أسبابها متعددة والنور مصدره واحد .
*
ومن ذلك إفراد "النار" حيث وقعت، و"الجنة" وقعت مفردةً ومجموعة ، لأن الجنان
مختلفة الأنواع فحَسُن جمعها، والنار مادةٌ واحدة ، والجنة رحمة والنار عذاب
فجمعت الجنة وأفردت النار ، قال تعالى :
[محمد:12] .
*
إفراد السمع وجمع البصر: قال تعالى :
[المؤمنون:78] .
لأن السمع غلب عليه المصدرية (أي حقيقة عملية السمع التي تتم في مركز السمع
في المخ) فأفرد ، وهو إدراك لمؤثر واحد وهو الاهتزازات الصوتية .
واللائق بالأبصار هو الجمع ، لأن عملية الإبصار تتم عن طريق الإدراك لآثار
الألوان المختلفة على مركز الإبصار .
*
المشرق والمغرب، ورد : بالإفراد :
لاعتبار الجهة، قال تعالى:
[الشعراء:28].
وبالتثنية : لاعتبار مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغربهما
، مثال
[الرحمن:17]
.
وبالجمع : لاعتبار تعدد المطالع في كل فصل من فصول السنة ، قال تعالى :
[المعارج:40].(10) د-
ألفاظُُ تناسب حروفها معانيها ، ومن أمثلة ذلك :
*
لفظة () في قوله تعالى :
[الحاقة:6] .
اللفظة بجرسها الصوتي في حرفي الصاد والراء المكررين تدل على معنيي الشدة
والتتابع، كما تدل على ما يصاحب الرياح الشديدة من أصوات .
*
لفظ :
[الناس:4] .
تكرار الحرفين الواو والسين، يدل على تكرار الفعل الذي هو الوسوسة، كما إن
حرف السين المهموس يدل على معنىً آخر ، وهو كون هذه الوسوسة خفية .
وليست مثل لفظ يصطرخون مثلاً في قوله تعالى في وصف أهل النار
[فاطر:37]
فلفظ : المكون من ثلاثة من حروف التفخيم الصاد والطاء والخاء يدل على شدة صراخهم الناشئ عن شدة العذاب
والعياذ بالله .
*
لفظ: (زلزلت) تكرار حرفي الزاي واللام يدل على تكرار الزلزلة .
*
لفظ: (يُذبّحون) بالتشديد ، يدل على تكرار الذبح .
وكذلك التشديد في لفظ (وليطوّفوا) يدل على التكرار .
*
لفظ (غليظاً) في قوله تعالى :
[النساء:21]
فخامة الكلمة باحتوائها على حرفين من حروف التفخيم يدل على عظم شأن الميثاق.
*
لفظ (كآفة) في قوله تعالى :
[سبأ:28]
فالمد في اللفظ الذي يقدر بست حركات في علم التجويد، يوحي بالعموم المقصود من
الكلمة، ولذلك هو أدل من لفظ : جميعاً(11).
أمثلة من بلاغة التركيب في القرآن الكريم :
*
قول الله تعالى:
[البقرة:179] .
اتفق علماء البيان أن هذه الآية بالغة أعلى درجات البلاغة(12)
.
فهي تحمل ألفاظاً شريفة فيها جلالة وبلاغة وإيجاز
.
فصدر الآية (ولكم) : مؤذن بأن منفعة القصاص مختصة بكم عائدة إليكم، إنما شرعت
رحمة بكم وإحساناً إليكم. * وقوله تعالى :
[البقرة:179] إيذان بأن الحياة
الحاصلة إنما هي في العدل وهو أن يفعل بالقاتل كما
فعل بالمقتول. لأن القصاص في اللغة المماثلة، وهذا تحقيق للعدل .
* وقوله تعالى :
جاءت هنا نكرة
لتعظيمها، وليس المراد أي حياة، بل الحياة التي تحصل من القصاص حياة خاصة
محبوبة لدى النفوس الشريفة .
فإذا علم من يريد القتل أن مصيره أن يقاص به ارتدع
عن القتل ، فتسبب ذلك في حياة الناس، وكذلك إذا قُتِل القاتل فإنه سيُمنع
شرُّه عن نفوس أخرى فتحيا .
* وقوله تعالى :: يعني أن هذا الحكم إنما يتقبله ويحسن فهم حكمته أصحاب
العقول السليمة الخالصة عن شوب الهوى. * وقوله تعالى
:
بيان لثمرة عظيمة من ثمار امتثال ذلك الحكم النافع المفيد، وهو أن تجعلوا
وقاية بينكم وبين ما يضركم من القتل أو من معصية الله المفضية إلى عذابه. * وقوله سبحانه
[البقرة:179]
أبلغ من قول العرب: القتل أنفى للقتل وهو أوجز كلام عند العرب في هذا المعنى
، وقد بين العلماء ذلك فيما يأتي :
1. أن قوله سبحانه
[البقرة:179]
مطرد ، فكل قصاص يوجب حياة، بينما قولهم : القتل أنفى للقتل غير مطرد ، فليس
كل قتل أنفى للقتل ، بل قد يكون أدعى للقتل ، مثل القتل ظلماً فإنه أدعى
لزيادة القتل، ولكن القصاص هو الذي يحَدُ من القتل .
2. أن حصول الحياة هو المقصد الأصلي، ونفي القتل إنما يراد لحصول الحياة
والتنصيص على الغرض الأصلي [الحياة] أولى من التنصيص على غيره [نفي القتل] .
3. أن في لفظ القتل تكراراً بخلاف الآية فليس فيها تكرار.(13)
4. أن لفظ القصاص يدل على الجزاء العادل بخلاف القتل في المثال المذكور.(14)
قال
الزمخشري معلقاً على الآية :
[البقرة:179] ،
قال : كلام فصيح لما فيه من الغرابة وهو أن القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد
جُعل مكاناً وظرفاً للحياة … وهي الحياة الحاصلة
بالارتداع عن القتل(15).
*
قوله تعالى :
¼
…
[الأنعام:151] مع
قوله سبحانه :
[الإسراء:31] يظن
الناظر في الآيتين الكريمتين لأول وهلة أنه لا فرق في المعنى بينهما، وعند التأمل يظهر الفرق ، وهو أن الآية الأولى
ذكرت النهي عن قتل الأولاد لأجل الفقر عند الآباء وبينت أن الله يرزق الآباء
والأولاد، وقدمت ذكر رزق الآباء على الأولاد ، وفي الآية الثانية تقدم ذكر
رزق الأولاد على الآباء لخشيتهم الفقر المتوقع ، والسرّ في ذلك أن الآية
الأولى تتحدث عن الآباء الفقراء ولذا قال سبحانه أي من فقر، لذا طمأنهم
سبحانه بأنه سيرزقهم وسيرزق الأولاد أيضاً، بينما الآية الثانية تتحدث عن
آباءٍ أغنياء في الحالة الراهنة ولكنهم يخشون الفقر بسبب الأولاد ولذا قال
سبحانه
،
فبدأ سبحانه بإخبارهم أن رزق الأولاد الذين بسببهم يخشى الفقر سيكون عليه
سبحانه، فقدم ذكرهم طمأنةً لآبائهم وأخبرهم بأنه سيرزق الآباء أيضا والله
أعلم .
*
قوله تعالى حكاية عن الجن زمن بعثة النبي r :
حيث
ذكر فاعل الرشد وهو الله سبحانه ، ولم يصرح بمريد الشر، وهذا من الأدب مع
الله سبحانه .
وكذلك في قوله سبحانه عن إبراهيم عليه السلام وهو يتحدث عن ربه سبحانه:
[الشعراء:78-81]
تأمل كيف قال: وإذا مرضتُ فنسب المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله عز وجل.
*
قوله تعالى:
[الأنبياء:46] .
لما كان التعبير عن أخف أنواع العذاب الذي يثمر الندم الكبير عند الكافرين
جاء التعبير عنه بدلالات كاشفة عن ذلك .
فقوله تعالى:: اللام للقسم لتوكيد الجملة التي ستذكر
وإن: للاحتمال، أي إن مستهم نفحة .
وقال سبحانه : والمس من أدنى
درجات الإصابة، ولم يقل: أصابهم .
وقال: () : أي شيئ يسير من العذاب ، وهي منونة
للدلالة على التقليل.
وقال: من عذاب ربك ، و() للتبعيض، ولم يقل كل عذاب ربك.
فهذا بيان لغاية الضعف البشري أمام أدنى درجات العذاب الإلهي بأسلوب غاية في
البلاغة(16).
سر فصاحة القرآن وبلاغته :
لقد كان القرآن العظيم غاية في الفصاحة والبلاغة لأنه كلام الله الذي يحمل
العلم الإلهي ، وينم عن العظمة والصفات الإلهية التي لاتحد بحد ، فأعجز
الفصحاء والبلغاء فلم يجدوا إلا أن يقولوا : إنه سحر، كما حكى الله عنهم
قولهم
[المدثر:24]
.
ومن وجوه فصاحته وبلاغته ما يأتي :-
أ- تضمنه أصح المعلومات وأدقها وأكملها ، وأصدق المعاني وأوضحها ، وأحسن
الكلام والتعبير بأفصح المفردات والتراكيب وأبلغها وأعذبها ، وسريان ذلك فيه
من أوله إلى آخره، وإنه ليستحيل على بشرٍ أن يصل
إلى هذا السمو ، فإنه إن راعى دقة المعلومة فاته
رونق اللفظ وعذوبته غالباً، وإن أراد تنميق الألفاظ وتزيينها لم يصل إلى
مراده في دقة المعلومة التي يوردها .
وإنك لتلاحظ عذوبة ألفاظه حتى في المواضع العقدية والتشريعية التي تستلزم
البعُد عن اللفظ البديع غالباً.
ب- جمعه بين صفتي العذوبة والجزالة(17)
مع كونهما كالصفتين المتضادتين لا تكادان تجتمعان
في الكلام.
ج-
إرواؤه لمطلب العقل والعاطفة معاً بحيث لا يطغى
أحدهما على الآخر.
د- قصده في اللفظ مع الوفاء بحق المعنى :
فإنه يجلي المعنى كاملاً واضحاً في كلمات وعبارات قاصدة ليست بالطويلة المملة
، أما البشر فإنه إن أراد الاقتصاد في اللفظ قصر في التعبير عن المعنى
المطلوب ، وإن أحب تجلية المعنى قاده ذلك إلى التطويل في العبارة ، وإن قُدّر
أنه ضبط اللفظ مع المعنى في جملة أو جملتين ، فإن الكلال
والإعياء سيلحقه بعد ذلك في بقية الكلام ، وندر أن يصادفه هذا التوفيق مرة
ثانية إلا الفينة بعد الفينة .
هـ- جودة سبكه وإحكام سرده
مع أنه حوى موضوعات كثيرة مختلفة شاملة لحاجات
البشر في الدنيا والآخرة من تشريع وقصص ومواعظ وبراهين عقلية ووجدانية
ومناقشات وأمثال وحكم وغير ذلك ، فقد سبك هذه الموضوعات
جميعاً وغيرها سبكاً حكيماً ، فتراه مترابطاً ترابط الجسم الواحد والروح
الواحدة .
و- إشباعه العامة والخاصة على السواء :
فالجميع يتذوق حلاوته ويجد فيه من بغيته ما يمتع عقله وقلبه ، فالعامة يلتذون به ويفهمون منه على قدر استعدادهم وما تبلغه
عقولهم وقلوبهم ، والخاصة يجدون حلاوته ويفهمون منه أكثر مما تفهم منه العامة
، بخلاف غيره من كلام البشر فتجد منه ما يرضي العامة لسهولته ولكن الخاصة
تمجّه لكونه دون مستواهم ، وإن أرضى الخاصة لارتفاع مستواه لم يُرضِ العامة
لكونهم لا يفهمونه .
ز- مسحته اللفظية المميزة :-
فهي مسحة خلابة عجيبة ، تتجلى في نظامه الصوتي وجماله اللغوي ، فأما نظامه
الصوتي فإنك تجده متسقاً مؤتلفاً في حركاته وسكناته ومدوده وغُنَّاته ، واتصالاته
وسكتاته ، اتساقاً عجيباً وائتلافاً رائعاً ،
يسترعي الأسماع ويستهوي النفوس بطريقة لا يمكن أن يصل إليها أي كلام آخر من
منظوم ومنثور .
فجرسه الصوتي يجذب السامع له ويلفت انتباهه ، حتى لو كان أعجمياً لا يعرف
اللغة العربية ، ولعل هذا هو الذي حمل بعض العرب في عهد النبوة أن يقولوا :
إنه شعر ، ثم عادوا إلى أنفسهم فعلموا أنّه فوق الشعر وأنه لايسير على منهج الشعر ومنواله فقالوا : هو سحر .
وأما جماله اللغوي فهو ما امتاز به في رصف حروفه وترتيب كلماته ترتيباً
بديعاً ، بحيث أنك تجد لذةً حين تسمع حروف القرآن خارجة من مخارجها الصحيحة ،
فحرف يَصْفُر وآخر يَنْقُر، وهذا يُخْفى وذاك يُظْهر ، وهذا يُهْمس وذاك
يُجْهر ، فخرج للناس بمجموعة مختلفة مؤتلفة ، جامعة بين اللين والشدة ،
والخشونة والرقة ، والجهر والخُفْية على وجه دقيق محكم ، وَضَعَ كلاً من
الحروف المتقابلة في موضعه بميزان ، حتى تألف من مجموع ذلك قالب لفظي مدهش
بلغ جماله اللغوي قمة الإعجاز ، بحيث لو أدخل في القرآن شيء من كلام الناس
لاعتل مذاقه في أفواه قارئيه واختل نظامه في آذان سامعيه(18).
ح- إحكام ترابطه وكمال تناسقه مع كونه قد نزل مفرقاً حسب الحوادث في ثلاثٍ
وعشرين عاماً ، بينما البشر يعجزون أن يصنفوا كلاماً مترابطاً كترابط القرآن
إذا كان قد قيل في مناسبات مختلفة وفي أزمنة متباعدة .
وقال الخطابي رحمه الله : القرآن صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ ، في
أحسن
نظوم التأليف ، متضمناً أصح المعاني ..(19) اعتراف العرب الفصحاء
ببلاغة القرآن وفصاحته :-
وقد اعترف العرب الفصحاء بعظيم نظم القرآن وبلاغته وأسلوبه من خلال تأثرهم
به، حتى كانوا يحذِّرون من قدم إلى مكة من سماع القرآن خشية أن يتأثر به
فيُسلم، بل تواصوا فيما بينهم باللغو عند سماع القرآن حتى لا يتأثر به
السامع. قال تعالى:
[فصلت:26] . قال مجاهد : الغوا فيه بالمكاء(20) والتصدية(21) والتخليط في
الكلام حتى يصير لغواً. قال الشوكاني
: عارضوه باللغو الباطل ، أو ارفعوا أصواتكم ليتشوش القارئ له.(22)
ولما جاء الطُفَيل بن عمرو إلى مكة لم يزل به
الكفار يحذرونه من سماع القرآن حتى وضع في أذنيه قُطناً خشية أن يسمع شيئاً
من القرآن ، وأبى الله سبحانه إلا أن يسمعه شيئاً منه مع وجود ذلك القطن ،
فهدى الله قلبه لسماع القرآن ومن ثَمَّ شرح الله صدره للإسلام.(23)
ولما سمع الوليد بن المغيرة القرآن فكأنّه رَقَّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه
فقال : يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوه لك ، فإنك أتيت
محمداً لِتَعرَّض لما قِبَله ، قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً !
قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له ، قال: وماذا أقول؟! فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا أعلم برَجَزِه
ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا،
ووالله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه
لمُثمر أعلاه مُغْدِق أسفله، وإنه ليَعْلو وما يعلى، وإنه ليَحْطِمُ ما تحته
!!
قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه !!. قال : فدعني
حتى أفكر فيه، فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر، يأثره
عن غيره(24)
!! فنزلت الآيات في الوليد قال تعالى:
[المدثر:11-26]
(25)
فقول الوليد : إن القرآن سحر، يبين عميق التأثير الذي أحدثه القرآن في نفسه .
وقال الزهري : حُدِّثْتُ أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس
بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله
j،
وهو يصلي بالليل في بيته، وأخذ كل رجل منهم مجلساً ليستمع فيه، وكل لا يعلم
بمكان صاحبه ، فلما طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم
لبعض : لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً، ثم انصرفوا .
حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له،
حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول
مرة، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا
يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض : لا
نبرح حتى نتعاهد ألاّ نعود ، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم
خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ، فقال : يا أبا ثعلبة
، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت
معناها ، ولا ما يراد بها ، قال الأخنس : وأنا
والذي حلفت به كذلك .
قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال : يا أبا الحكم ،
ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال ماذا سمعت ! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا،
وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاذينا(26)
على الركب، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منّا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى
ندرك مثل هذه! والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه . قال : فقام عنه الأخنس وتركه.(27) فحرصهم على الحضور ليلاً لسماعه مما
يدُّلُّ على تأثرهم به وتعجبهم منه لكونه ليس ككلامهم ، ولكن العناد
والمكابرة حملهم على تركه كما قال أبو جهل . ومما يدل على تميز القرآن الذاتي عن كلام
العرب ما شهد به أُنَيْس بن جنادة الغفاري قبل
إسلامه، حيث سأله أخوه أبو ذرّ عما يقول الناس في النبي r فقال : يقولون : شاعر،
كاهن، ساحر – وكان أنيس أحد الشعراء – قال أنيس : لقد سمعت قول الكهنة فما هو
بقولهم ، ولقد وضعت قوله على أقراء(28) الشعر
فما يلتئم على لسان أحدٍ أنه شعر، والله إنه لصادق
وإنهم لكاذبون…".(29)
وقدم
جُبير بن مُطْعِم
إلى المدينة قبل إسلامه في فداء أُسارى بدر فسمع
النبي r يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطور(30)
قال : فكأنما صدع قلبي حين سمعت القرآن(31)،
وفي رواية : وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي.(32)
فهؤلاء من قريش أفصح العرب يشهدون ببلاغة
القرآن وفصاحته من خلال تأثرهم به.(33) وما أحسن ما سطره الرافعي في تصويره تأثير القرآن في العرب الذين كانت
الفصاحة والبلاغة من أبرز مفاخرهم ، وأنه لولا فصاحة ألفاظه التي بلغت حد
الإعجاز لما استطاع التأثير فيهم لأنه قد قامت فيهم بالفصاحة "دولة الكلام
ولكنها بقيت بلا ملك حتى جاءهم القرآن".(34)
تحدي الكافرين أن يأتوا بمثله :
قال تعالى مبيناً عجز الإنس والجن مجتمعين أن يأتوا بمثل القرآن الكريم
[الإسراء:88]
.
وهذه الآية مكية، نزلت في وقت قلة عدد المؤمنين وضعفهم، وإِقْدامُ النبي
j على هذا الخبر العظيم عن جميع الإنس
والجن إلى يوم القيامة أنهم لا يقدرون على الإتيان بمثل القرآن، بل يعجزون
عنه، لا يقدم عليه وهو يدعو الناس لتصديقه إلا وهو واثق أن الأمر كذلك ، ولا
يُقْدِم عاقل على مثل هذا الخبر وهو يشك فيه ، في مثل ظرف النبي
j في ذلك الوقت، ولم يكن هذا اليقين
حاصلاً للنبي
j
، إلا بإعلام الله سبحانه له .(35)
وقد تحدى الله الكفار أن يأتوا بمثله إن ظنوا أنه من قول محمد
j،
قال سبحانه
[الطور:34] .
وتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله فقال سبحانه :
[هود:13] .
ثم تحداهم الله أن يأتوا بسورة من مثله فلم يقدروا ، وأخبرهم أنهم لن يفعلوا قال سبحانه :
[البقرة:23-24] .
ولو كان القرآن من كلام الرسول r لما جزم بعدم استطاعة
أحد أن يأتي بمثله، وتحقق هذا الجزم بعد ذلك دليلُُ على أن القرآن كلام الله
المعجز .
وكان
بإمكانهم أن يكذبوا القرآن لو استجابوا للتحدي
وأتوا بسورة مثل القرآن. ولماّ رأينا أنهم تركوا الاستجابة للتحدي مع أنه أمر
لا يكلفهم كثيراً من التبعات واختاروا الطريق الوعر لمواجهة الرسول وهو الحرب
وإزهاق الأنفس وإهدار الأموال علمنا علماً يقينياً عجزهم عن الإتيان بمثله مع
كونهم أساطين الفصاحة والبلاغة . ولو قَدَّرنا أن رجلاً ألف كتاباً ، أو
قال شعراً ثم تحدى الكتاب والشعراء ، فقال: عارضوني وإن لم تعارضوني فأنتم
كفار مأواكم النار ، ودماؤكم لي حلال !! فمن المستحيل أن يحجم الجميع عن
معارضته لإنقاذ أنفسهم من القتل ، ولدفع وعيده لهم بدخول النار ، فإذا لم
يعارضوه رغم توافر الدواعي لمعارضته كان ذلك من أبلغ العجائب الخارقة للعادة
الدالة على صدقه في تحديه.(36) وهذه البينة (المعجزة) قائمة دائمة إلى
أن يرث الله الأرض ومن عليها .(37)
هناك علامات واضحة بينة في القرآن تدل قارئه وسامعه أنه من عند الله عزوجل ويستحيل أن يكون من عند غيره ومنها :
1) الجدة الدائمة :
يلمس القارئ أثراً من آثار إعجاز القرآن حين يقرأ القرآن العظيم ، فكلما ما
قرأه وجده جديداً، ولا يزال يشعر بأنه جديد لا يبلى مهما تكرر على اللسان
والسمع ، وكم كرر المسلمون ويكررون سورة الفاتحة وقصار السور كل يوم ، وكلهم
يجمعون على أن القرآن الكريم لا يزال جديداً على ألسنتهم ، وهذه علامة تخضع
للممارسة من كل قارئ للقرآن في أي زمان وفي أي مكان ، كما أنها علامة إلهية
في كل سورة. ولقد نطق أحد كبار المستشرقين بهذه الحقيقة ، وهو المستشرق "
ليون " فقال : حسب القرآن جلالة ومجداً أن الأربعة
عشر قرناً التي مرت عليه لم تستطع أن تخفف ولو بعض الشيء من أسلوبه الذي لا
يزال غضاً كأن عهده بالوجود أمس .
2) كونه روحاً من أمر الله : يكون الكلام
انعكاساً لشخصية المتكلم وعلمه وخبرته وصفاته، وقارئ القرآن يقع في نفسه شعور
بأن المتكلم إليه هو الله سبحانه. قال تعالى
[الشورى:52]، فهناك سر خاص
وسلطان خاص يحمله القرآن إلى قارئه يدله على أنه كلام الله .
3) أنه كلام فريد : كلام البشر درجات وطبقات متقاربة ويمكن
دمج كلام بعضهم ببعض لكن القرآن يمثل درجة متميزة، وطبقة من الكلام خاصة،
تتميز عن سائر كلام البشر ، فإذا تكلم الخطيب أو كتب الكاتب، واستشهد بآيات
من كتاب الله تحس بالفارق الجلي بين مستوى كلام الله وكلام البشر، يشعر به
السامع والقارئ، بينما كل كلامٍ للبشر يمكن دمجه بغيره دون الإحساس بفارق .(38)
4) قوة تأثيره والروعة والهيبة التي تلحق قارئه وسامعه :
فإذا قرأ القارئ ما شاء من كلام البشر في موضوع ما ، ثم قرأ من كتاب الله
آيات في نفس الموضوع ، فسيشعر بالفرق الكبير في التأثير بين كلام الله وكلام
البشر .
وانظر الفرق بين أثر ما تسمعه من وعظ الواعظ بكلام الله ، وبين وعظه بكلامه.
بل جرب أن تعظ الناس بكلامك ثم تعظهم بكلام الله ، ثم انظر الفرق في وجوه
المستمعين وفي نفسك ، بشرط شرحك للألفاظ القرآنية التي لا يعرفها العامة في
هذا الزمان .
ولقد أدرك المستشرق (س . ل) هذه العلامة الإلهية كما أدركها غيره، فقال : "إن
أسلوب القرآن جميل وفياض ، ومن العجب أنه يأسر بأسلوبه أذهان المسيحيين ،
يجذبهم إلى تلاوته ، سواء في ذلك الذين آمنوا به ، أو لم يؤمنوا به وعارضوه."
وقد ذكرنا مدى تأثيره في كفار قريش ، ويكفي المتأمل ما أحدثه من تأثير هائل
في حياة العرب الأميين حتى جعل منهم خير أمة أخرجت للناس قادت البشرية بالعلم
والعدل والحق ، وصهرت الشعوب في بوتقتها ، رغم اختلاف أجناسها وألوانها . تجربة في تأثير القرآن على
التوتر العصبي :
أجرى د. أحمد القاضي تجربة لقياس أثر القرآن على من لديهم توتر عصبي ، فكان
يعرض هؤلاء المتوترين على تجارب متعددة ، فكان يجرب أثر السكون والموسيقى
والقرآن عليهم .
فوجد أن الذين استمعوا للقرآن وهم لا يعرفون اللغة العربية انخفض التوتر
لديهم إلى نسبة تصل إلى ستين في المائة، وأن الذين
كانوا يفهمون اللغة العربية ويعرفون معاني الآيات انخفض توترهم إلى تسعين في المائة ، بينما كان تأثير السكون والموسيقى في درجات
متدنية. وقد ذكر لي أحد كبار المسئولين في اليمن أنه إذا أوقظ من نومه في
الليل يأتيه أرق يمنعه من النوم ثانية ، فيلجأ إلى سماع القرآن لإذهاب ما
أصابه من توتر والعودة إلى النوم ، ويمكن لكل شخص يقع في مثل هذه الحالة أن
يعالج نفسه بنفس العلاج ، وإن كثيراً من المجهدين بالتوتر العصبي إذا استمعوا
إلى كلام الله ارتخت أعصابهم ورأيت النعاس يداعب أجفانهم، إن هذه القوة
المؤثرة في الأعصاب تدل على مصدرها الإلهي العظيم . قال تعالى
[الرعد:28].
تأثر الشاعر المعاصر نقولا حنّا :-
حيث كان نصرانياً ، ثم أعلن إيمانه بالقرآن وبالرسول r.
قال :- قرأت القرآن فأذهلني ، وتعمقتُ به ففتنني ، ثم أعدت القراءة فآمنت ..
آمنت بالقرآن الإلهي العظيم ، وبالرسول مَنْ حَمَله ، النبي العربي الكريم …
إلى أن يقول:-
وكيف لا أومن ومعجزة القرآن بين يديّ انظرها
وأحسها كل حين ؟! هي معجزة لا كبقية المعجزات .. معجزة إلهية خالدة تدل
بنفسها عن نفسها ، وليست بحاجة لمن يحدث عنها أو يبشر بها. وقال :- وكم
احتاجت وتحتاج الأديان السابقة إلى علماء ومبشرين وشواهد وحجج وبراهين لحض
الخلق على اعتناقها ، إذ ليس لديها ما هو منظور محسوس يثبت أصولها في القلوب
.. أما الإسلام فقد غني عن كل ذلك بالقرآن فهو أعلم مُعلِّم وأهدى مبشر ، وهو
أصدق شاهداً وأبلغ حجة وأدمغ برهاناً .. هو المعجزة الخالدة خلود الواحد
الأزلي المنظورة المحسوسة في كل زمان .
ثم نظم قصيدة يبين فيها إعجاز القرآن وعظمته(39)
.
5) خلوه من التناقض والاضطراب
للناس آراء ومقررات في حالات الضعف أو الخوف أو الضيق أو الفقر أو القلة أو
نقص المعلومات، وترى تلك الآراء والمقررات تتغير إذا تبدل حال الإنسان إلى
العكس مما سبق، وترى هذا في كل عمل بشري ، لكن لا تجد أثراً لشيء من هذا
الاختلاف في كتاب الله، لأنه من كلام الذي لا تغيره الأحوال سبحانه، ولا يشوب
علمه النقص، قال تعالى :
[النساء:82].
مع أن القرآن كتاب ضَمَّ طِوال السور وقصارها،
ونزل في فترات متقطعة، وفي ظروف مختلفة وشمل علوماً متعددة، وتحدث عن آفاق
واسعة ، تجده يصدق بعضه بعضاً ويكمل آخره أوله(40).
6) علومه الواسعة :
اشتمل
القرآن على علوم ومعارف تهدي البشر إلى طريق الحق والصواب والسعادة في جميع
شؤونهم في حياتهم الدنيا والآخرة، وتجنبهم الشر بحذافيره ، في كل زمان ومكان
، وقد بلغت هذه العلوم من دقة المعلومات ، وصحة الأخبار ، ونبالة القصد ،
ونصاعة الحجة ، وحسن الأثر ، وعموم النفع مبلغاً يستحيل على محمد r – وهو رجل أمي نشأ بين
أميين - أن يأتي بها من عند نفسه ، بل يستحيل على أهل الأرض جميعاً من علماء
وأدباء وفلاسفة وأخلاقيين أن يأتوا بمثلها من تلقاء أنفسهم ولو تظاهروا على ذلك(41)،
فالعلوم التي في القرآن تدل كل عاقل ومنصف على أنه من عند الله، ولا يمكن أن
تكون من عند غيره، ونضرب لك ثلاثة أمثلة مما احتوى عليه من العلوم :
أ- إخباره بالغيب الماضي والحاضر والمستقبل(42)
فمن إخباره بالغيب الماضي : إخباره بقصص الأمم السابقة التي لم يشهدها محمد
صلى الله عليه وآله وسلم أو قومه ، مثل قصة نبي الله نوح عليه السلام مع أمته
التي كانت من أقدم الأمم على الأرض. فقد دعا نوح عليه السلام قومه إلى عبادة
الله سبحانه وترك عبادة غيره، واستمر على ذلك مدةً طويلة بلغت ألف سنة إلا
خمسين عاماً، ومع ذلك لم يستجب له إلا قليل من
الناس ، فدعا ربه أن ينصره على من عاداه ، فأنزل الله مطراً غزيراً من السماء
وفجر الأرض عيوناً فاغرق الكافرين، ونجى الله المؤمنين على سفينةٍ مع نوح
عليه السلام. وأخبر الله سبحانه نبيه في القرآن بعد أن ذكر قصة نوح عليه
السلام مع قومه في سورة هود أن هذه القصة من أخبار الغيب التي لم يكن محمد
r يعلمها ولا قومه، وإنما
ساقها الله عبرةً وتسلية لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم. قال تعالى:
[هود:49]
ولو أن الكفار في عهد النبي r كانوا يعلمون شيئاً من
ذلك لكانت فرصة لتكذيب النبي r ، ولكنهم لاذوا بالصمت .
ورد ذكر "هامان" ست مرات في القرآن الكريم ، كما ورد اسمه متصلاً باسم فرعون
كشخص من المقربين إليه ويسند فرعون إليه أعمال البناء ، حيث أمره ببناء صرح
عالٍ يصعد عليه ، قال تعالى
[غافر:36-37]
.
فهاتان الآيتان تثبتان وجود شخص اسمه هامان مقرب إلى فرعون ، ويكلفه بعمل
البناء . بينما لم يرد ذكر لهامان في التوراة ،
ولم يرد ذكره في أيٍ من المقاطع (الروايات) التي تحكي حياة نبي الله موسى
عليه السلام ، لكن ورد اسم "هامان" في أحد كتب العهد القديم .(43)
لكن هذا الكتاب ذكر أن "هامان" شخص مساعد لملك بابل ،وبابل في العراق ، وأنه
أوقع الكثير من الضرر بالإسرائيليين ، ولكن هذه الأحداث كانت بعد نبي الله
موسى بمدةٍ طويلة تبلغ 1100عام . ويدعى بعض الطاعنين في الإسلام(44) أن
محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي كتب القرآن ، وأنه نسخ قصص الأمم
السابقة من التوراة والإنجيل ، فأخطأ في شخصية هامان فذكر أنه وزير فرعون ،
بينما هو - حسب دعواهم - مساعد ملك بابل .
وجاءت الكشوف الحديثة في علم الآثار لتظهر صدق ما جاء في القرآن الكريم
وبطلان تلك الدعاوى المزعومة بعد أن حلت رموز وحروف الكتابة الهيروغليفية
المصرية القديمة ، التي ورد فيها ذكر شخصية هامان وطبيعة عمله . وتوجد الإشارة إلى هذا
الإسم في نصب في متحف هوف في فيينا(45) ، كما ظهر في كتاب بعنوان : (in
the new Kingdom people)(46) (في شعب المملكة الجديدة) الذي تم إعداده استناداً
إلى مجموعة من النقوش كما ظهرت في هذه النقوش وظيفة وطبيعة عمل هامان وهو أنه
كان : (رئيس عمال الحجارة) "ورد الاسم مذكراً ، من المملكة الجديدة. وترجمت
المهنة إلى اللغة الألمانية بمعنى رئيس أو مراقب العمال في مقالع الحجر.(47)
وهذا كله يثبت حقيقة ما جاء في القرآن من أن هامان
كان في مصر وأنه كان مسؤولاً عن أعمال البناء وهذه
المعلومات لم تكن متوفرة في عهد نبوة محمد صلى الله عليه وآله سلم ، لأن
الكتابة الهيروغليفية قد تركت منذ زمن قديم حيث يرجع آخر مثال معروف
لاستخدامها إلى عام 394 بعد الميلاد(48) ، ثم نسيت هذه اللغة ولم يكن هناك أحد يستطيع أن
يحل رموزها أو يفهمها إلى حوالي 200سنة مضت في عام 1799م تم اكتشاف "حجر
رشيد" (Rosetta
stone) التي يرجع تاريخها إلى 196قبل الميلاد ، وبواسطتها
تم حل شفرة الكتابة المصرية القديمة، ومن خلالها توفرت المعلومات عن الحضارة
المصرية القديمة وجوانبها الدينية والاقتصادية والتاريخية وغيرها ، ومن ذلك
معرفة شخصية "هامان" وطبيعة عمله، كما ذكر ذلك في القرآن الكريم فمن أين
لمحمد r هذا العلم الذي خفي على
البشرية في وقته وإلى عصرنا الحاضر حتى قبل 200سنة تقريباً ، إن الإخبار باسم
شخص كان يعيش مع فرعون والإخبار عن وظيفته عند فرعون. مع أن هذا الإسم قد سقط عند أهل الكتب المقدسة ونسي من ذاكرة
التاريخ. ولم يعثر على هذا الإسم إلا بعد نزول
القرآن باثني عشر قرناً بعد أن تم اكتشاف حجر رشيد التي تمكن بها علماء
الآثار من فك رموز لغة الفراعنة (الهيروغليفية) فوجدوا اسم هامان يذكر في
النقوش الفرعونية وأنه وزير فرعون للبناء تماماً كما أخبر القرآن ، إن ذلك
يدل على أن مصدر هذا الخبر الغيبي قد نزل في القرآن من علم الله ، إنه من
الله العليم بكل شيء.(49)
وكما أخبر القرآن بالغيب الماضي فقد أخبر ببعض الحوادث التي لم يشهدها رسول
الله
r – وهي في زمنه فكانت
غيباً بالنسبة له - فأطلعه الله عليها ، ومن ذلك:-
أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أسر إلى بعض أزواجه أنه قد حرم على
نفسه شرب العسل الذي عند بعض نسائه لما ظن أن فيه رائحة غير مستحسنة(50)،
وأمرها أن لا تخبر بذلك أحداً، فأخبرت بعض نسائه بذلك، فأطلعه الله سبحانه
على ذلك وأخبرها به، فسألته عمن أخبره بذلك الغيب فأخبرها أنه الله سبحانه.
قال تعالى :
[التحريم:3] ومن أمثلته كذلك
ما كان يخفيه المنافقون من بغضهم للإسلام وطعنهم فيه فيطلع الله عليه نبيه،
وكان المنافقون يعلمون ذلك ويخشون أن ينزل القرآن ببيان ما أسروا في قلوبهم.
قال تعالى:
[التوبة:64]
كما قال تعالى مبيناً كذب المنافقين في اعتذارهم في التخلف عن الجهاد
[التوبة:94] (51)
وقد قال أحدهم في النبي r كلمةً كفر بها ، حيث كان
النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فقال المنافق : إن كان هذا صادقاً لنحن
شر من الحمير، فقال زيد بن أرقم : هو والله صادق وأنت شر من الحمار ، ولما
نقلت كلمته إلى النبي r جحدها، فنزل القرآن
الكريم بإثبات تلك الكلمة عليه. قال تعالى :
[التوبة:74] (52)
وهكذا كان الوحي يكشف للرسول r ما يدور بعيداً عنه مما
يحاك حوله وما يدور في خفايا النفوس .
وهناك نوع آخر من الغيب كشفه الوحي لرسول الله r، وهو الغيب
المكنون في المستقبل الذي لا سبيل لأحد من البشر أن يعرفه. ومن أمثلته ما وعد
الله به المؤمنين من الاستخلاف في الأرض مع أنهم كانوا قلة مستضعفة. قال
تعالى :
[النور:55] .
وقد تحقق ذلك الوعد فخلال قرن من الزمان انتصر المؤمنون على الدولتين
العظيمتين في ذلك الوقت وفتحوا الأرض شرقاً وغرباً ودانت لهم شعوبها بالإسلام
ودخلوا في دين الله أفواجاً .
ومن أمثلة الإخبار بغيب المستقبل أن يقرر القرآن أن أشخاصاً معينين بأسمائهم
لن يسلموا وأنهم سيموتون على الكفر ، وكان بإمكانهم
أن يكذبوا القرآن ولو تظاهروا بالإسلام تظاهراً ، ولكنهم لم يخرجوا عما قرره
القرآن في حقهم ، بالرغم من إسلام الأعداد الكثيرة ممن كانوا أشد الناس
عداوةً له. ومن ذلك ما ذكره سبحانه عن أبي لهب أنه من أهل النار. قال تعالى :
[المسد:1-3] وكذلك إخباره
عن الوليد بن المغيرة أنه سيصلى النار قال تعالى:
[المدثر:26]
وكان الأمر كذلك فمات أبو لهب كافراً ، ومات الوليد كافراً. إلى غير ذلك من
الأمثلة.(53)
ب- الشريعة العظيمة التي احتوى عليها
لا يستطيع أحد أن ينظم بدقةٍ وإحاطةٍ أمر مصنوع من
المصنوعات إلا إذا كان على علم بأسرار ذلك المصنوع فتأتي إرشاداته وتوجيهاته
محققة للسير الصحيح.
ومن تأمل في أحوال البشرية وجدها في اضطراب وفساد على الدوام ، لكنها عندما
طبقت شريعة الله التي جاء بها رسله استقر أمرها وصلح حالها وختم الله الشرائع
بشريعة محمد r التي شُيّدت عليها أثبت
الحضارات التي عرفها البشر خلال التاريخ الإنساني ، وسعدت البشرية في ظل تلك
الشريعة التي وحدت بين الأجناس المختلفة والبيئات المتباينة والعصور
المتعاقبة، وشهد بذلك الدارسون من أهل الاختصاص مما يدل على أن هذه الشريعة
من قبل خالق الإنسان، الذي يعلم أسرار خلقته وفطرته .
ولقد تميزت هذه الشريعة بمزايا عديدة منها :
1- شمولها ووفاؤها بحاجات البشر ومطالبهم : فإلى جانب ما
احتوى عليه القرآن من الهدى والنور في جانب الاعتقاد والإيمان الذي نزل من
أجله ، فقد اشتمل على أفضل وأرقى التشريعات التي
تكفل سعادة الفرد والمجتمع بل والعالم بأكمله في جميع شؤون حياتهم في جوانب
السياسية والقضاء والحكم وإقامة العدل ، وفي جوانب الاقتصاد والمال
والمعاملات ، وفي جوانب الاجتماع والتكافل والأخلاق والآداب والفضائل ، وفي
جوانب الفكر والبحث والعلم ، وفي جوانب الصحة وحماية الأعراض واستتباب الأمن
، وفي جوانب العقل والبدن والأسرة والمرأة
والمجتمع ، وفي جوانب الحرب والسلم والعلاقات بين سائر بني الإنسان ، وبيان
الحقوق والواجبات فلم يُبْقَ جانباً من جوانب الحياة إلا وقد بيّن فيه سبيل
الحق والهدى والصواب كما قال تعالى لرسوله
[النحل:89] . ومن الأدلة على ذلك أن الأمة الإسلامية قد عاشت أكثر من ألف وأربعمائة عام غنية بما لديها من التشريعات ، ولا تزال بعض الدول الإسلامية تتحاكم إليها في محاكمها ولم تحتج في يومٍ من الأيام إلى قوانين مستوردة من خارج الشريعة الإسلامية ، لأن الجهاز التشريعي الضخم قد أغناها عن الحاجة لغيرها
2- جمعها بين مطالب الروح والجسد والعقل والعاطفة معاً
فهي تعالج الكيان الإنساني كاملاً بجميع مقوماته وتكويناته ، بينما تنحصر الشرائع الوضعية البشرية في
محاولاتها المتبدلة القاصرة على الجوانب المادية، وتترك جوانب الروح والعاطفة
والأخلاق والقيم جانباً يتخبط فيها الناس لجهلهم بحقيقة الروح والعقل
ومتطلباتهما .
3- جمعها بين صفتي الثبات والمرونة
الشرائع البشرية التي توضع لضبط تفاصيل الحياة للمجتمعات لا يمكن لها أن تبقى
ثابتة بسبب تغير صورة الحياة وتجدد أساليبها وتطورها مما يفرض التبدل عليها ،
فلا تقوى قوانينها على الثبات أكثر من بضعة عقود من الزمان .
كما تهب رياح التبديل على هذه الشرائع بسبب مجافاتها
للفطرة وعدم معرفة واضعيها بحقيقة النفس الإنسانية ومفاجآت الزمان المستقبلية
، لكن الشريعة الإسلامية قد اشتملت على قواعد كلية تستجيب بمرونة كاملة
لتفاصيل الحياة المتجددة ، لأنها من لدن الخالق الذي يعلم أسرار الفطرة
البشرية ويحيط علماً بما سيكون فتستوعب قواعدها بكفاءة بالغة كل تطور يجد على
واقع الحياة . كما أن قواعد
الدين الإسلامي الثابتة قد جاءت هادية وموجهة لسلوك الإنسان النابع من فطرته
الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير على مرّ العصور، فتبقى جميع أنشطة البشرية
مرتبطة بالفطرة البشرية الثابتة والدين الثابت من قبل فاطر الإنسان وخالقه. قال تعالى:
[الروم:30].
ويقوم المجتهدون من العلماء باستنباط الأحكام الجزئية للحوادث المتجددة من
تلك القواعد الكلية الشاملة التي تستوعب كل الصور المتجددة(54)،
كما قال تعالى :
[النساء:83]
.
أما التفاصيل التعبدية والأخلاقية التي لا تتبدل فقد جاءت الشريعة بأحكام
مفصلةٍ لها لا تتبدل .
في أثناء زيارة سفير فرنسا لي ، سألني قائلاً : هل اكتملت الحياة وصورها ؟
- فقلت : لا .
- فقال : وهل اكتمل الدين ؟
- فقلت : نعم .
- فقال : فكيف يتسع الدين المحدود الذي اكتمل لحاجات الحضارة وصورها المتجددة
؟!
- فقلت له : هل تركيب عينك هو نفس تركيب أعين من كانوا يعيشون في عصر محمد وفي عصر المسيح
عليهما السلام ؟
- فقال : التركيب واحد لم يتغير .
- فقلت له : هل تركيب أعضاء جسمك ، هو نفس تركيب أعضاء أجسام من كانوا يعيشون في عهد النبي محمد
وفي عهد المسيح عليهما السلام ؟
- فقال : نعم ، تركيب أجسامنا لم يتغير ولم يتبدل
.
- قال : نعم .
- قلت له : الذين كانوا يعيشون في عصر النبي محمدٍ وفي عصر المسيح هل هم
مثلنا يحبون ويكرهون ويخافون ويطمعون ؟
- قال : نعم .
- فقلت له : إذن التركيب النفسي لنا ولهم لم يتغير
ولم يتبدل !
- قال : نعم هذا صحيح .
- فقلت له : التركيب النفسي والبدني لمن يعيشون اليوم هو نفس التركيب النفسي والبدني لمن
كانوا يعيشون في عهد النبي محمد وفي عهد المسيح عليهما السلام .
- فقال : هذا صحيح .
- ثم قلت له : لو أن لدينا مليون سيارة مرسيدس ،
بتصميم هندسي واحد (موديل واحد) ، قد صنعت طبقاً لخطة هندسية واحدة ، ولها
كتاب إرشاد (كتالوج) واحد ، فهل يصلح كتاب لإرشاد (الكتالوج) الواحد لتسيير
وتشغيل أي سيارة من هذه المليون السيارة؟!
- فقال : طالما والموديل واحد والصنعة واحدة ، فلابد أن يكون (الكتالوج)
واحداً، والكتالوج الواحد يصلح لأي سيارة من هذه السيارات .
- فقلت له : ولو وزعناها على القارات في آسيا ، وأوروبا ، وأمريكا ؟!
- فقال : ولو وضعت في أي مكان على الأرض ، فإنها لا تعمل إلا بنفس (الكتالوج)
الذي صنعت طبقاً له ما لم يتغير تركيبها .
- فقلت له : ولو أننا أخرجنا من مخزن السيارات مائة
سيارة بعد عشر سنوات ، فهل لا يزال (الكتالوج) يصلح لها ؟!
- فقال : لا يزال يصلح لها ، لأنها لم يحدث لها أي تغيير في تركيبها .
- فقلت له : ولو أخرجناها بعد مائة سنة فهل لايزال الكتالوج يصلح لها .
- فقال : يصلح لها ما دام تركيبها لم يتغير .
- فقلت له : ولو أخرجناها بعد ألف وأربعمائة عام ، فهل لايزال (الكتالوج) نافعاً لها ويصلح لتشغيلها ؟!
- فقال : نعم ، لايزال يصلح لها ما لم يتغير تركيبها !
- فقلت له : إذا كانت الإرشادات (الكتالوج) التي تقدمها مصانع السيارات تصلح
لتشغيل تلك السيارات من نفس تلك الصنعة (الموديل) مهما اختلف الزمان والمكان
، فكذلك الشريعة والدين الذي جاء من عند الله متعلقاً بفطرة الإنسان البدنية والنفسية التي لم تتبدل ولم تتغير بتغير الزمان
والمكان ، لايزال صالحاً لفطرة الإنسان التي خلق
الله الناس عليها ، وصالحاً للبشرية الموحدة في فطرتها وخلقتها كما قال تعالى
:
[الروم:30]
.
- ثم قلت له : والدين الذي جاءنا من عند الله جاء في صورة قواعد كلية هادية
تستوعب كل الصور المتجددة لتطورات الحياة ، ويقوم العلماء المجتهدون بتنزيل
أحكام الدين على صوره المتجددة ، كما يقوم الخياط الذي يفصل الملابس وفق
قواعد الخياطة فيجعلها متناسبة مع أحجام الناس ونوعية القماش ، ومناسبة لفصول
السنة وفقاً لقواعد التفصيل والخياطة ، ولكنه يجعلها مناسبةً للحجم المطلوب
ونوع المادة التي صنع منها القماش ، والبيئة التي يعمل فيها الإنسان .
ولو قام المجتهدون بعملهم كاملاً لما قصرت الشريعة عن إيجاد حلٍ لأي مشكلة
تستجد للفطرة الإنسانية الثابتة .
وهكذا تعلقت الشريعة بالفطرة الثابتة التي لا تتغير وكانت مرنة بعمل
المجتهدين الذين يستنبطون من قواعدها الأحكام المناسبة للصور المتجددة .
4- شهادة أهل الاختصاص من غير المسلمين لها :
وقد شهدت بعظمتها المجامع الدولية في عصرنا – مع مخالفتها لنا في العقيدة –
ومن تلك الشهادات ما يلي : * ويقول (هوكتنج) أستاذ القانون بجامعة هارفارد في كتابه (روح
السياسة العالمية) عام 1932م: " إن سبيل تقدم الممالك الإسلامية ليس في اتخاذ
الأساليب الغربية ، التي تدعي أن الدين ليس له أن يقول شيئاً في حياة الفرد
اليومية وإنما يجب أن يجد المرء في الدين مصدراً للنمو والتقدم، وأحياناً
يتساءل البعض عما إذا كان نظام الإسلام يستطيع توليد أحكام جديدة. وإصدار
أحكام مستقلة تتفق وما تتطلبه الحياة العصرية فالجواب عن هذه المسألة هو أن
في نظامه كل استعداد داخلي للنمو، لا بل إنه من حيث قابليته للتطور يفضل
كثيراً من النظم المماثلة ، والصعوبة لم تكن في انعدام و سائل النمو والنهضة
في الشرع الإسلامي ، وإنما في انعدام الميل إلى
استخدامها ، وإني أشعر بكوني على حق حين أقرر أن الشريعة الإسلامية تحتوي
بوفرة على جميع المبادئ اللازمة للنهوض .(55) * أما الأستاذ (شبرل) عميد كلية الحقوق في جامعة فينا فقد أعلن في مؤتمر
الحقوقيين 1927م قوله : "إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ أنه
رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوربيين
أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة. "(56)
* وأما المؤتمر الدولي القانوني المقارن الذي انعقد في (لاهاي) أيضاً في عام
1326هـ (أغسطس 1937م) فقد أعلن ما يأتي:
1- اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع العام ، أي أن الشريعة
الإسلامية قد أصبحت مصدراً للمحاكم الدولية والقوانين الدولية لا لقوة أهلها
، ولكن لصلاحيتها هي ، وقوتها الذاتية التي فرضت نفسها .
2- وأصدر المؤتمر إعلاناً بأن الشريعة الإسلامية قائمةُُ بذاتها، ليست مأخوذة من غيرها . 3- اعتبار الشريعة الإسلامية حيةً صالحةً
للتطور .(57)
* أما أسبوع الفقه الإسلامي المنعقد في باريس ، فقد وقف فيه نقيب المحامين في
باريس فقال : (أنا لا أعرف كيف أوفق بين ما كان يحكى لنا عن جمود الفقه
الإسلامي وعدم صلاحيته كأساس للتشريع يفي بحاجيات المجتمع العصري المتطور
وبين ما نسمعه الآن في المحاضرات ومناقشاتها ، مما يثبت حلاف ذلك تماماً
ببراهين النصوص والمبادئ كما وقف غيره من رجال القانون الفرنسي ، ورجال الاستشراق ، وأشادوا بالفقه الإسلامي وأنه صالح لجميع
الأزمنة والأمكنة. وفي ختام المؤتمر ، وضع المؤتمرين بالإجماع القرار الآتي: "… نظراً لما ثبت للمؤتمرين من الفائدة
المحققة التي أتاحتها المباحث التي عرضت من خلال
أسبوع "الفقه الإسلامي" وما دار حول هذه المباحث من مناقشات أثبتت بجلاء "أن
الفقه الإسلامي" يقوم على مبادئ ذات قيمة أكيدة لا مرية في نفعها ، وأن
اختلاف المبادئ في هذا الجهاز التشريعي الضخم ينطوي على ثروة من الآراء
الفقهية ، وعلى مجموعة من الأصول الفنية البديعة التي تتيح لهذا الفقه أن يستجيب بمرونة هائلة لجميع مطالب
الحياة الحديثة ، فإن أعضاء المؤتمر يعلنون رغبتهم في أن يظل أسبوع الفقه
الإسلامي يتابع أعماله سنة فسنة ….".(58)
فليست هذه الشريعة الثابتة المرنة ، التي لم تنل منها الأيام ، والتي تحقق
العدل والسعادة للإنسان في كل زمان ومكان ، إلا علامة وبينة إلهية تشهد أنها
من عند الله الذي أحاط علماً بأمر الإنسان ، وأن النبي الأمي ليس إلا رسولاً
يبلغ ما يوحى إليه من ربه .
ج- الإعجاز العلمي الذي احتوى عليه القرآن :
القرآن لا تنقضي عجائبه ، فكلما مر الزمن اكتشفت البشرية وجهاً جديداً من
إعجازه، فما إن دخل الناس في عصر العلوم الكونية حتى وجدوا في كتاب الله نبأ
صدق ما وعدهم. في قوله تعالى :
[فصلت:53] .
وإذا بالوعد يتحقق ، [انظر فصل : البينة العلمية].
7) حفظه من التغيير والتبديل :
ومن العلامات الإلهية في القرآن كونه محفوظاً من التغيير والتبديل ، مع مرور
الأزمنة المتطاولة على نزوله ، وكثرة المعادين والحاقدين والخصوم المتربصين
به وبأهله ، ومع ذلك لم تنله يد التغيير والتبديل ، وما حصل من محاولات
التحريف باءت جميعها بالفشل . فهو محفوظ على مستوى الحرف الواحد بل على
مستوى حركة الحرف الواحد ، وإنك لتسمع القرآن اليوم يذاع من إذاعات العالم
المختلفة ومن الدول المعادية للإسلام(59) ، فإذا
هو القرآن المعروف الذي أنزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وهذا كله تصديق لوعد الله سبحانه الذي تكفل بحفظه فقال سبحانه
[الحجر:9]
.
8) علامات أخرى :
وهناك علامات أخرى تدل المنصف العاقل أن القرآن ليس من عند محمدٍ صلى الله
عليه وآله وسلم ومن ذلك :
- ما نزل من القرآن بعد طول انتظار :
فقد حصلت في عهد النبي r حوادث مهمة وحرجة كانت
تستدعي بياناً سريعاً لها، وكان النبي r يقع في
موقف حرجٍ فيها، ومع ذلك كان ينتظر حتى يأتيه الوحي والبيان من الله لتلك
المواقف. ولو فرضنا أن القرآن كان من عنده r لأنقذ نفسه
من الحرج دون حاجةٍ إلى التأخير : ولعل أبرز
الأمثلة على ذلك ما قاله أهل الإفك في زوجته السيدة الطاهرة عائشة أم
المؤمنين ، ومكث النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرابة شهر وأهل الإفك يخوضون
في باطلهم ومع ذلك لم يتبين له الأمر حتى نزل الوحي من السماء ببراءة أم
المؤمنين رضي الله عنها قال تعالى:
[النور:11-18] ، ولو
كان القرآن من عنده r لأمكنه أن يتلو على
الناس بعض الآيات فور ظهور مقالة أهل الإفك في مثل هذه الحادثة التي لا
تستدعي أقل وقت للتأخير، وذلك ليبرئ ساحته وعرض أهله، ولكنه لم يفعل لأنه ما
كان ليفتري الوحي من دون الله .(60)
- آيات العتاب له صلى الله عليه وآله وسلم :
ولو كان لمحمد r تصرف في القرآن لحجب
آيات العتاب الإلهي له في بعض اجتهاداته r . ومن أمثلة هذا
العتاب : أن النبي r أذن لبعض الناس في
التخلف عن الجهاد نظراً لما أبدوه من أعذار ، فعاتبه الله سبحانه على ذلك
مبيناً له أن بعض الذين استأذنوه كانوا غير صادقين ، فلم يكن ينبغي أن يأذن
لهم. قال تعالى :
[التوبة:43].
وقد عاتبه سبحانه عند قبوله الفداء في أسارى بدر مبيناً له أنه ما كان ينبغي له قبول الفداء منهم والإسلام مازال في حالة ضعف. قال سبحانه : [الأنفال:67] ، وعاتبه ربه سبحانه عند إعراضه عن عبدالله بن مكتوم الأعمى لما جاءه ليتعلم منه ، لكونه منشغلاً بدعوة بعض رؤساء قريش ، قال سبحانه[عبس:1-4]
وعاتبه ربه سبحانه عند تحريمه العسل على نفسه – كما مر معنا(61)
- قال تعالى:
[التحريم:1]
ولو كان القرآن من كلام محمد r لما سجّل على نفسه هذا
العتاب، يتلوه الناس بل ويتقربون إلى الله بتلاوته حتى يوم المآب .
- الآيات التي تجرد الرسول r من نسبة الوحي إليه
إذا قرأت القرآن وجدت فيه الآيات التي تجرد النبي r من أن يكون
له في القرآن مشاركة أو نصيب في تأليفه، بل يصفه القرآن بأنه كان قبل نزول
القرآن لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان ، ويمتن عليه بأن الله آتاه الكتاب
والحكمة ، بل يذكر أنّه لم يكن له رجاء في نزول الوحي عليه. قال تعالى :
[النساء:113]
. وقال سبحانه :
[الشورى:52] . وقال سبحانه :
[القصص:86] فلو كان القرآن
العظيم بما احتوى عليه من معجزات بهرت البشر من تأليف محمد r لما تنصّل من نسبته إليه
، بل لكان أعظم مفخرةٍ له أن ينسب إلى نفسه ما تفوّقَ به على جميع البشر
ولكنه لم يفعل ، بل تلا على الناس ما أنزله الله عليه من أنه لو قال شيئاً من
قبل نفسه ونسبه إلى الله سبحانه لعاقبه ربه سبحانه على ذلك أشد العقوبة. قال
سبحانه
[الحاقة:44-47] ،
أي لو كان محمد - r – مفترياً علينا كما
يزعم الكافرون ….. لأخذنا منه بيمينه ثم لقطعنا منه العرق المتصل بالقلب (الوتين)
، ولا يستطيع أحد من البشر عندئذٍ أن يدفع عنه(62)
.
فليتأمل المُنِصف أيُسّرُّ أحداً أن يقول هذا عن نفسه في كتاب هو من تأليفه
وإنشائه . واقرأ إن شئت
قوله تعالى :
[يونس:15-16] .
والمعنى :- إن هذا القرآن فوق طاقتي وليس من مقدوري وما أنا إلا ناقلُُ له
اتبع ما يوحى إليّ منه، وإني أخاف سطوة منزل هذا الكتاب إذا أنا تلاعبت
بنصوصه أو غيّرت فيه ، فالقرآن كلامه، ولو أراد ألا أكون رسولاً بينه وبينكم
ما تلوته عليكم ولم تتمكنوا من درايته وفَهمه ، فقد نشأت بينكم وعرفتم حالي
حضراً وسفراً مدة أربعين سنة قبل نزوله – وهو عمر طويل – وأنتم تعلمون أني لم
أكن أقرأ ولا أكتب ولا تعلمتُ من أحدٍ مثله أو قريباً منه ، بل أنا أمِّي، لم
تسمعوا مني مطلقاً مثل هذا
الكلام المعجز ، ولم تجربوا عليّ كذبةً واحدةً في حياتي ، فكيف افتري على
الله سبحانه وأكذب عليه بعد هذا العمر الطويل ، أفلا تعقلون !!(63)
. وصدق الله القائل : [العنكبوت:48]. (1) وكذلك سميت المعجزة في كتاب
الله : آية وبرهاناً وبصيرةً وسلطاناً ، أما لفظ المعجزة فلم يرد في الكتاب
والسنة . (2) أخرجه البخاري ك/ فضائل القرآن
ب/ كيف نزل الوحي وأول ما نزل ، ومسلم ك/ الإيمان ب/ وجوب الإيمان برسالة
نبينا محمد إلى جميع الناس . (3)
ابن
الجوزي والزمخشري وأبو
حيان والألوسي والشوكاني ، البيضاوي والنسائي والخازن ، والجلالان . (4) انظر علم الأجنة في ضوء القرآن
والسنة ، من أبحاث المؤتمر العالمي الأول للإعجاز العلمي في القرآن والسنة
المنعقدة في باكستان – إسلام آباد من 25-28 صفر 1408هـ ولاسيما المبحث الأخير
منه : توافق المعلومات الجنينية مع ما ورد في
الآيات القرآنية . (5) المعجزة الخالدة ص211 لحسن ضياء
الدين عتر . (6) والقانون الفيزيائي المعروف أن
ثقل الجسم يخف مع زيادة سرعته ، وإذا أبطأ تثاقل .
(7) ذلك أن الخشية هي أشد الخوف،
مأخوذ من قولهم شجرة خشية أي يابسة وهو فواتٌ بالكلية، والخوف مأخوذ من
قولهم: ناقة خوفاء، أي بها داء وهو نقص ليس بفوات
. (8) الإتقان في علوم القرآن 1/621-622.
(9) محاضرات مسجلة في إعجاز القرآن
الكريم للدكتور طارق السويدان . (10) وهناك بعض الكواكب في بعض
المجرات السماوية تطلع عليها أكثر من شمس وتغرب . (11) محاضرات مسجلة في إعجاز القرآن
الكريم للدكتور طارق السويدان .
(12) صفوة التفاسير
1/120. (13) بدائع التفسير من
كلام ابن القيم 1/381-382. (14) البحر المحيط
لأبي حيان 2/155. (15)
بواسطة المرجع
السابق صـ154. (16) من محاضرات د. طارق السويدان في إعجاز القرآن . (17)
العذوبة
هي رقة اللفظ وسلاسته ، والجزالة : قوته ومتانته .
(18)
مناهل
العرفان 2/331-335 بتصرف ، وانظر كتاب "النبأ العظيم" لمحمد عبدالله دراز ، لزيادة التوضيح والتفصيل في إعجاز القرآن
وروعته اللغوية . (19)
بيان
إعجاز القرآن ص27 . (20) المكاء : الصغير . (21)
التصدية : التصفيق . (22) انظر تفسير الشوكاني . (23) السيرة النبوية لابن هشام
2/226-227 . (24) أي : أتيت محمداً تريد شيئاً من
العطاء من جهته . (25) أخرج هذه الحادثة الحاكم في
المستدرك 2/550 وقال صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي
، وعن الحاكم أخرجها البيهقي في شعب الإيمان
1/156-157 . (26) تجاذينا : مأخوذ من قولهم : جذا الرجل إذا جلس على
ركبتيه . (27) سيرة ابن هشام 1/337-338 . (28) أقراء الشعر : طرائقه وأنواعه . (29) مسلم ك/ فضائل الصحابة ب/ من
فضائل أبي ذر ، وأحمد في مسند الأنصار من حديث أبي ذر الغفاري . (30) أخرجه البخاري ك/ الجهاد والسير
ب/ فداء المشركين ، ومسلم ك/ الصلاة ب/ القراءة في الصبح . (31) أخرجه أحمد في أول مسند
المدنيين من حديث جبير بن مطعم ، والبيهقي في السنن الكبرى 2/444 ، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/211-212 ، والطبراني في
المعجم الكبير 2/116 والصغير 2/265 وغيرهم ، وذكره الحافظ في فتح الباري
2/492 . (32) أخرجه البخاري ك/ المغازي ب/ شهود الملائكة بدراً . (33) بل إن بعض نصارى العرب
المتأخرين ممن لهم تضلع في اللغة العربية وآدابها قد اعترفوا بذلك ، ومنهم
الكاتب البليغ: إبراهيم اليازجي وكذلك الشاعر
المعروف خليل مطران كما نقله عنهما الرافعي رحمه الله في وحي القلم وكذلك الأستاذ جبر ضومط مدرس علوم البلاغة في الجامعة الأمريكانية في كتاب الخواطر الحسان كما نقله عنه
الأستاذ: محمد رشيد رضا رحمه الله . انظر علوم القرآن الكريم للدكتور نور
الدين عتر ص201. (34)
إعجاز
القرآن 157-160 . (35)
انظر
شعب الإيمان للبيهقي 1/55 والجواب الصحيح لابن
تيمية 5/409. (36) انظر الجواب الصحيح لابن تيمية
5/430 . (37) قال بعض الناس (يحكى ذلك عن
النظام من المعتزلة وآخرين) : إن وجه الإعجاز في القرآن ، هو أن الله صرف همم
الكفار عن معارضته، لا لأن نظمه معجز في ذاته ، بمعنى أنهم كانوا يقدرون على
الإتيان بمثل نظمه لولا أن الله صرف هممهم عن ذلك ، وهذا القول غير صحيح
لأسباب : أولاً : أنه مصادم للنص القرآني الذي يبين أن الخلق لا يستطيعون
الإتيان بمثله ولو تعاونوا على ذلك، فيلزم القائلين بالصرفة، أن الخلق
يستطيعون الإتيان بمثله لولا أن الله صرفهم عن ذلك . ثانياً : أنه قول لا
برهان له ولا دليل عليه ، لا من النص ولا من الواقع فلم يشعروا أنهم فقدوا
قدرتهم على البلاغة . ثالثاً : أنه مخالف
لإجماع العلماء قبله على أن القرآن معجز في ذاته . رابعاً : أن حروف
القرآن وألفاظه وجمله وتراكيبه قد نزلت بعلم الله ، فكانت قرآنا معجزاً،
والإدعاء بأن في قدرة الإنسان أن يأتي بمثله هو
ادعاء بأن علم الإنسان في صياغة الكلام كعلم الله ، وهذا محال . خامساً : أن القول
بالصرفة يبطل الحكمة من تحدي القرآن للكافرين والذي لا يكون إلا مع تمام
الحرية لهم في الاستجابة للتحدي والصرفة تتعارض مع ذلك لإظهار العجز المقصود
من التحدي. السادس : أنه قد حصلت
فعلاً محاولات فاشلة للمعارضة ، كما صنع مسيلمة
وغيره وهذا مما يبطل القول بالصرفة، ولكن هذه المعارضة باءت بالفشل ، بل كانت
خزياً لصاحبها ودليلاً على كذبه وافترائه بما فيها من السماجة والركاكة. وذكر
ابن كثير من سخافات مسيلمة ما كان يزعمه قرآنا قوله :- يا ضفدع بنت الضفدعين، نِقِّي لكم
تَنِقِّين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين، رأسك في الماء، وذنبك في
الطين ويقول:- والفيل وما أدراك ما الفيل له زلوم
طويل .. وأشياء من هذا الكلام السخيف الركيك انظر البداية والنهاية 6/331
وانظر الجواب الصحيح 5/429-431 . (38) قال ابن تيمية : نفس نظم القرآن
وأسلوبه عجيب بديع ، ليس من جنس أساليب الكلام المعروفة ، ولم يأت أحد بنظير
هذا الأسلوب ، فإنه ليس من جنس الشعر ولا الرجز ولا الخطابة ولا الرسائل ،
ولا نظمه نظم شيء من كلام الناس عربهم وعجمهم أ.هـ
الجواب الصحيح 5/433 . (39)
علوم القرآن الكريم د. نور الدين عتر ص201-202 وذكر من ضمن أبيات قصيدته :- يقولون : ما آياته ؟ ضلَّ سعيهم
وآياته – ليست تُعَدُّ – عِظَامُ كفى معجزُ الفرقان للناس آيـةً علا
وسما كالنجم ليس يُرام فكُلُّ بليـغٍ عنـده ظل صامتـاً
كأنَّ على الأفواه صُرَّ كِمَـامُ وشاء إله العرش بالناس رحمةً وأن
يتلاشى حقدهم وخصامُ ففرّق ما بين الضلالة والهـدى
بفرقان نـور لم يَشُبْه قَتَـامُ (40) انظر كتاب/ دفع ايهام الاضطراب عن آيات الكتاب للشيخ محمد الأمين الشنقيطي للرد على من توهم وجود تعارض في الآيات
القرآنية . (41)
انظر مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2/366 . (42) وقد ذكرنا أمثلة لذلك في الجزء
الأول . (43) العهد القديم يشمل التوراة
بالإضافة إلى بعض الكتب المقدسة الأخرى عند اليهود ، ومنها زبور نبي الله
داود عليه السلام . (44)
Ludwig Marroccio (Confessor to the Pope Innocent XI), Alcoranus Textus Universus: 1698, Published at Paduae, Italy. B Lewis, V L
Arthur Jeffery, The
Foreign Vocabulary of the Qur,an: 1938, Oriental
Institute, (45) Walter Wreszinski, Aegyptische
Inschriften aus dem K.K. Hof Museum in Wien: 1906, J C Hinrichs,
sche Buchhandlung,
(46) Hermann Ranke, Die gyptischen Personennamen, Verzeichnis
der Namen, Verlag Von JJ Augustin in
Gluckstadt, Band I (1935). (47)
The name is listed as
masculine, from the New Kingdom. The profession translated into German
reads Vorsteher der
Steinbruch arbeiter
The Chief / Overseer of the workers in the stone quarries,, (Aegyptische Inschriften,
134, p. 130). (48) Encyclopdia Briannica
Online, Op. Cit., (Under “Hieroglyph”). (49) هذا الخلاصة في اسم هامان من
مقال للدكتور/ باسم طارق جمال في مجلة الإعجاز العلمي ، العدد (14) لعام
1423هـ . (50) وقيل : إن السر هو تحريم مارية القبطية على نفسه ، قال الشوكاني: والجمع بينهما ممكن
بوقوع القصتين، قصة العسل ، وقصة مارية انظر فتح
القدير عند تفسير الآيات المذكورة من سورة التحريم .
(51) سميت سورة التوبة الفاضحة
لكونها تفضح المنافقين ، قال الشوكاني : وتسمى
البحوث لأنها تبحث عن أسرار المنافقين، وكذلك المبعثرة ، والبعثرة :- البحث،
والمخزية لكونها أخزتهم ، والمثيرة : لكونها تثير أسرارهم وغير ذلك من
الأسماء. انظر مقدمة تفسير سورة التوبة من فتح القدير .
(52) انظر تفسير الشوكاني ، وقد روي في سبب نزولها غير ذلك ، والله أعلم
. (53) انظر مزيداً من الأمثلة على
إخبار القرآن بالغيب في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 6/ 70-79 . (54) انظر إلى كتب الشريعة المتعلقة
بمقاصد الشريعة وقواعدها الفقهية . (55) روح التشريع الإسلامي للأستاذ/
عفيف طبارة ص256 بواسطة الفقه الإسلامي بين
المثالية والواقعية 111-112
للدكتور محمد مصطفى شلبي ط. الدار الجامعية بيروت 1982 .
(56) دولة القرآن ص195 .
(57) المدخل إلى التشريع الإسلامي ،
د. كامل موسى ص189-190 ط. أولى مؤسسة الرسالة عام 1410هـ .
(58)
دولة القرآن ص188 .
(59) تذيع هذه الدول القرآن تأليفاً
لقلوب عامة المسلمين . (60) ومن ذلك أنه r – كان يتشوق للاتجاه إلى
الكعبة في صلاته كما قال تعالى : (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها) ومع ذلك لم يفعل ذلك حتى جاءه
الوحي به ، ومنه أنه سئل عن الروح فلم يدر ما يقول ، وتأخر عليه الوحي ثم نزل
قوله سبحانه : (ويسئلونك عن الروح قال الروح من
أمر ربي ، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) ،
ولو كان الوحي من عنده لأوجد لنفسه المخارج من مثل هذه المضايق . وانظر مناهل
العرفان 2/425-428 . (61) انظر موضوع الإخبار بالغيب في
حياة النبي r . (62) تفسير القرآن العظيم لابن كثير
. (63) مناهل العرفان 2/432 ، وبدائع
التفسير من كلام ابن القيم 2/395 .
|