|
ونحنُ نَستَعِدُّ لاستِقبالِ عامٍ دراسيٍّ جديدٍ ، قَد هيَّأنا لأبنائِنا فيه
كُلَّ ما يحتاجونه مِن مُستلزماتٍ دِراسيةٍ ، مِن كُتُبٍ ودفاتِرَ وأقلامٍ
ونحوِها ، فَإِنَّ هاهُنا تساؤلاً قد يَرِدُ على أَذهانِ كثيرٍ مِنَ الآباءِ :
لماذا نَستَعِدُّ في أولِ كلِّ عامٍ ونَبذُلُ ونُنفِقُ ، ونُوَفِّرُ لأبنائِنا
طُوالَ العامِ كلَّ ما يَطلبون ، ثم نُفاجَأُ بِأَنَّ النتائجَ في نهايةِ كُلِّ
فصلٍ أَضعفُ مِنَ الذي قَبلَهُ ؟ ولماذا يَبدَأُ عَدَدٌ مِنَ الأبناءِ
مَسيرتَهُ التَّعلِيمِيَّةَ مِنَ المتفوقين ، ثم لا تمرُّ به الأعوامُ إلا
وَينقُصُ تفوُّقُهُ ويَقِلُّ نَشَاطُهُ ، حتى إِنه قد يُصبِحُ بَعدَ النجاحِ
مخفِقًا ، وبَعدَ التفوقِ مُقَصِّرًا ؟ وَمَعَ أَنَّ لهذا الأمرِ أسبابًا
كثيرةً مُعقَّدَةً ، يحتاجُ الكلامُ عليها وتفصيلُها بحثًا طويلا ودراسة مفصلة
، إِلاَّ أَنَّ هَاهُنا مَسأَلَةً مُهِمَّةً يَنبغِي التَّنَبُّهُ لها ، بل هي
قاعدةٌ تربويةٌ يجبُ أَن يَعِيَها الآباءُ والأولياءُ ، قَبلَ أَن يُطالِبُوا
أَبناءَهم بِتَشَرُّبِ مَا يُلقِيهِ عليهم مُعلِّمُوهُم ، والتِهَامِ ما
يَطَّلِعون عليه في كُتُبِهِم ، والنجاحِ في حياتِهِم ومُستَقبَلِ أَمرِهِم ،
تلكم هي مَسألةُ وُجُودِ القُدوةِ الحسنةِ ، وَتَوَفُّرُ النموذجِ الحيِّ الذي
يُحتذَى .
إِنَّ المعلوماتِ والقَوَاعِدَ التي يتلقَّاها الأبناءُ في محاضِنِ التربيةِ
وَأَماكِنِ التعليمِ ، تَبقَى رَسُومًا جَامِدَةً لا حَيَاةَ فيها ولا
حِرَاكَ ، فإذا هَيَّأَ اللهُ لها مَن يَنفُخُ فيها رُوحَ التَّطبيقِ مِن أبٍ
أو أخٍ كبيرٍ ، آتَت ثمارَها وظَهَرَت آثارُها ، وَرَسَخَت في أذهانِ الطلابِ
وعُقُولِهِم رُسُوخَ الجبالِ الراسيةِ ، وَأَمَّا إِذَا كان المعلمون يَبنُونَ
كُلَّ يَومٍ لَبِنَةً ـ وهي وللأسفِ ضَعِيفةٌ ـ ثم يَهدِمُ المجتمعُ أَلفَ
لَبِنَةٍ بما يَرَاهُ المتعلمُ عَلَيهِم مِن مخالفاتٍ لما تَعَلَّمَه ،
فَأَنَّى لِبُنيانِ العِلمِ يَومًا أَن يَقومَ ويَرتَفِعَ ؟ وَكيفَ لِصرحِ
الأَخلاقِ والآدَابِ أَن يَصلُبَ ويَشتَدَّ ؟
متى يَبلُغُ البُنيَانُ يَومًا تَمَامَهُ *** إِذَا كُنتَ
تَبنِيهِ وَغَيرُكَ يَهدِمُ
أَرَى أَلفَ بَانٍ لا تَقُومُ لِهَادِمٍ *** فَكَيفَ بِبَانٍ خَلفَهُ أَلفُ
هَادِمِ
كَيفَ يحافِظُ الولدُ على الصلاةِ وَأَبوهُ لها مِنَ المهملين ؟
كيف يخِفُّ لأداءِ صلاةِ الفجرِ مَعَ الجماعةِ وأبوه عنها مِنَ المتكاسلين ؟
متى يَتَعَلَّمُ الصِّدقَ في القَولِ والوَفَاءَ بِالوَعدِ ، وهو يَرَى
وَالِدَهُ يَكذِبُ ويخُلِفُ ؟ متى يَعي حُرمَةَ الغِشِّ وَوَالِدُهُ يَغُشُّ
في بَيعِهِ وشِرائِهِ ومعاملاتِهِ ؟ وَمَن هذا الطالبُ الذي سَيُكرِمُ جَارَهُ
، وَوَالِدُهُ وجارُهُ مُتلاحِيَانِ مُتَخَاصِمَانِ ؟ وَأَيُّ طَالِبٍ
سَيُطَبِّقُ مَا تَعَلَّمَهُ عَن صِلَةِ الرَّحِمِ ، وَأَبوهُ مُصارِمٌ
لأَخيهِ مُقاطِعٌ لِبَني عَمِّهِ وأقاربِهِ ؟ وهل سَيَعرِفُ أبناؤُنا حُقُوقَ
إِخوانِهِم المسلمين ، أو يقدرون أَنظِمَةً ويَعمَلُون بِتَعلِيمَاتٍ ، أو
يحافظون على مُقَدَّراتٍ ، وَنحنُ نُعَوِّدُهُم عَلى أَضدَادِ ذلك ؟!! إِنَّهُ
لأَمرٌ يَتَقَطَّعُ منه القَلبُ أسًى ، أَن نَكونَ ـ نحنُ الأَوليَاءَ ـ
أَوَّلَ العَقَبَاتِ التي يَصطَدِمُ بها أَبناؤُنا بَعدَ خُرُوجِهِم مِن
مُؤَسَّسَاتِ التعليمِ ومَعَاهِدِ الدِّرَاسةِ ، حتى لَكَأَنَّنَا نَقُولُ لهم
بِلِسانِ حَالِنا : يَكفِيكُم حِفظُ مَا تَعَلَّمتُمُوهُ في عُقُولِكم ، ثم
تفريغُهُ على أوراقِ الإجابةِ في الاختباراتِ ، ولا يهمُّنا بَعدَ ذلك
طَبَّقتُمُوهُ أَم أَهملتُمُوهُ !!
وَأَمَّا حِينَ يَكونُ المعلمُ هو أَوَّلَ الهادِمِينَ ، بما يَلحَظُهُ
طلابُهُ مِن فَرقٍ بَينَ مَا يَقُولُهُ في المدرسةِ وما يَعملُهُ خارجَها ،
وبما يَرَونَهُ مِن مُفَارَقَاتٍ بَينَ أَوَامِرِهِ المِثالِيَّةِ مُعَلِّمًا
في الفصلِ ، وَتَصَرُّفاتِهِ المُغايِرَةِ مُوَاطِنًا يمشِي في الشَّارِعِ أو
في السوقِ ، وكأنه لا يَعرِفُ ممَّا كان يُلقِيهِ في دُرُوسِهِ شَيئًا ،
فَإِنَّ تِلكَ هي أَكبرُ خَطِيئةٍ يَرتكِبُها في حَقِّ مجتمعِهِ ، وَأَعظَمُ
ذَنبٍ يَقترِفُهُ ويُهَوِّنُُ على طلابِهِ اقترافَهُ .
يا أيها الرَّجُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ *** هَلاَّ لِنَفسِكَ كان
ذَا التَّعلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَا *** كَيمَا يَصِحَّ بِهِ
وَأَنتَ سَقِيمُ
وَنَرَاكَ تُصلِحُ بِالرَّشَادِ عُقُولَنَا *** أَبَداً وَأَنتَ مِنَ
الرَّشَادِ عَدِيمُ
اِبدَأْ بِنَفسِكَ فَانهَهَا عَن غَيِّهَا *** فَإِذَا انتَهَت عَنهُ فَأَنتَ
حَكِيمُ
فَهُنَاكَ يُقبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقتَدَى *** بِالعِلمِ مِنكَ وَيَنفَعُ
التَّعلِيمُ
لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتَأتيَ مِثلَهُ *** عَارٌ عَلَيكَ إِذَا فَعَلتَ عَظِيمُ
إِنَّهُ مَا لم يَكنْ هُنَاكَ تَوَافُقٌ بَينَ العِلمِ وَالعَمَلِ
، وَتَنَاغُمٌ بَينَ التَّنظِيرِ وَالتَّطبِيقِ ، وَبِيئَةٌ داخلَ المدرسةِ
وخارجَها يَتَهَيَّأُ لِلمُتَعَلِّمِ فيها شَوَاهِدُ حيَّةٌ على إِمكانِيَّةِ
تحقُّقِ مَا تَعَلَّمَهُ وَاقِعًا مَلمُوسًا ، فَلَن يَزيدَنَا التَّعلُّمُ
حِينَئِذٍ إِلاَّ مَقتًا لأَنفُسِنَا ، شَاهِدُ ذلك في كِتابِ رَبِّنا ، إذ
يَقولُ ـ سبحانَه ـ : " يَا أيها الذين آمنوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا
تَفعَلُونَ . كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفعَلُون "
لَقَد كان كثيرٌ مِن أَجدَادِنا وَآبائِنا وَهُم على جَانِبٍ مِنَ العِلمِ
قَليلٍ ، كَانوا خَيرًا مِن كَثِيرٍ مِن أَبنائِنا اليَومَ ، الذين لا
نُسَمِّيهِم مُتَعَلِّمِينَ ، وَلَكِنْ يحِقُّ أَن نَسِمَهُم بِأَنصَافِ
المُتَعَلِّمِينَ ، لأنهم اكتفوا مِنَ العِلمِ بِحِفظِهِ ، وَمِن قَوَاعِدِهِ
بِاستِظهَارِهَا ، ولم تحظَ أَرضُ الوَاقِعِ مِنهُم بِتَطبِيقٍ وتحقِيقٍ .
فَيَا أيها الآباءُ والأولياءُ والمعلمونَ ،، القُدوَةَ القُدوَةَ ، وَيَا
أيها الأَبناءُ ، التَّطبِيقَ التَّطبِيقَ لما تَعَلَّمتُم ، فَإِنَّ قليلاً
مِنَ العِلمِ مَعَ العَمَلِ وحُسنِ الأَدَبِ ، خيرٌ مِن كثيرٍ مِنَ العِلمِ
بِلا عَمَلٍ ، وَمَا نَقَصَ اليَهودَ عِلمٌ إِذْ مَقَتَهُمُ اللهُ وغَضِبَ
عَلَيهِم ، وَإِنما لأنهم عَلِمُوا فَلَم يَعمَلُوا ، وَتَعَلَّمُوا فَلَم
يُطَبِّقوا ، وَعَرَفُوا فَلَم يَلزَمُوا ، بل تحايَلُوا على مخالَفَةِ
الأَوَامِرِ وارتكابِ النواهي ، وَاقتَرَفوا المَعَاصِيَ وهُم يَعلَمُونَ .
أيها الآباءُ والمعلمون ، إِنَّ الأبناءَ يُولَدُونَ وَهُم على الخيرِ
مَفطُورُونَ ، وَعَلَى اتِّباعِ الحقِّ مجبولُون ، قُلُوبُهُم طَاهِرَةٌ ،
وَصُدُورُهُم مُنشَرِحَةٌ ، وَنُفُوسُهُم على الخيرِ مُقبِلَةٌ ، ونحنُ الذينَ
نملِكُ تَثبِيتَ تِلكَ الفِطرَةَ أَو تَغيِيرَهَا ، قال ـ صلى اللهُ عليه وسلم
ـ : " كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ على الفِطرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَو
يمُجِّسَانِهِ أَو يُنَصِّرَانِهِ " فَمَاذَا نحن فاعلون ؟! هل سَنعمَلُ على
تَثبِيتِ فِطرَةِ اللهِ التي فُطِرَ أَبنَاؤُنا عَلَيهَا بجَعلِ أَنفسِنا
قُدوَةً لهم في الخيرِ وتَسييرِهِم على الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ ؟ أَم
سَنترُكُهُم يَتَّبِعُونَ السُّبُلَ المُغوِيَةَ المُضَلِّلَةَ فَتَفَرَّقَ بهم
عن السَّبِيلِ ؟
أيها الأبُ الكريمُ والوالدُ الرحيمُ ، إِنَّكَ لا تَتَعَامَلُ مَعَ بهائمَ في
مَشرُوعِ تَسمِينٍ ، فَتَكتَفِي بِمَلءِ بُطُونِ أَبنَائِكَ وَكُسوَتِهِم
وتَوفِيرِ المأوى لهم ، وَلستَ جَلاَّدًا تَلجَأُ إِلَيكَ الأُمُّ حِينَمَا
تَعجِزُ عَن أَبنَائِهَا ، لِتَصُبَّ جَامَ غَضَبِكَ عَلَيهِم ، لَكِنَّكَ
مُرَبٍّ فَاضِلٌ وَمُوَجِّهُ قَدِيرٌ ، أَو هَكَذَا يجِبُ أَن تَكونَ ، بَل
إِنَّكَ أَنتَ المعلِّمُ الأَوَّلُ والمُربِّي الأَسَاسُ ، وَإِذَا أَنتَ لم
تُحسِنِ التَّربِيَةَ وَالتَّأدِيبَ لأَولادِكَ وهم لا يَتَجَاوَزُونَ خمسَةً
أو سِتَّةً ، فَلا تَلُمْ مُعَلِّمًا يُدَرِّسُ في الفصلِ عِشرِينَ طالبًا أو
ثلاثِينَ ، أو مُدِيرًا في مَدرسَتِهِ عَشَراتٌ مِنَ الطلابِ ، هُم مِن بُيُوتٍ
مختلفةٍ ، وَنِتَاجُ تَربِيَاتٍ مُتَغَايِرَةٍ ، فِيهِم الكبيرُ والصغيرُ ،
وَمِن بَينِهِم وَلَدُ الغَنيِّ وابنُ الفَقِيرِ ، وفِيهِم مَن فَقَدَ أُمًّا
أَو أَبًا ، وَمِنهُم المَرِيضُ أَو المُصابُ ، فَاعرِفْ دَورَكَ وَافهَمْ
مُهِمَّتَكَ ، كُن بِأَبنَائِكَ رَحِيمًا شَفِيقًا ، وفي تَعَامُلِكَ مَعَهُم
وَدُودًا بَشُوشًا ، قَوِّ العِلاقَةَ بَينَكَ وبَينَهُم ، وَاشدُدْ حِبالَ
الأَوَاصِرِ بهم ، رَبِّهِم قَبلَ أَنْ تُطالِبَ غَيرَكَ بِتَربِيَتِهِم ،
ولُمْ نَفسَكَ قَبلَ أَن تَلُومَ الآخَرِينَ ، صَاحِبْهُم وَحَافِظْ على
فِطَرِهِم سَلِيمَةً وَأَخلاقَهُم حَسَنَةً ، قَبلَ أَن يَتَلَقَّفَهُم
أَصدِقاءُ السُّوءِ وَأَصحَابُ الفَسَادِ ، فَيُغَيِّرُوا فِطَرَهُم
وَيَعِيثُوا بِأَخلاقِهِم ، تَذَكَّرْ أَنَّكَ أَنتَ المَسؤُولُ الأَوَّلُ
عَنهُم قَبلَ المدرسةِ ومن فيها ، يَقولُ اللهُ ـ سبحانَه ـ : " يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالحِجَارَةُ عَلَيهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعصُونَ اللهَ مَا
أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ " ويقولُ ـ سبحانَه ـ : " وَأْمُرْ
أَهلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيهَا لا نَسْأَلُكَ رِزقاً نَحنُ
نَرزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى " ويقولُ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ : "
كُلُّكُم رَاعٍ وكُلُّكُم مَسؤولٌ عَن رَعِيَّتِهِ " ويقولُ : " كَفَى
بِالمَرءِ إِثمًا أَن يُضَيِّعَ مَن يَعُولُ " ويقولُ : " إِنَّ اللهَ سَائِلٌ
كُلَّ رَجُلٍ عَمَّا استرعَاهُ أحفِظَ ذلك أَم ضَيَّعَهُ حتى يَسأَلَ الرَّجُلَ
عَن أَهلِ بَيتِهِ " ويقولُ : " مُرُوا أَولادَكم بِالصَّلاةِ لِسَبعٍ
وَاضرِبُوهُم عليها لِعَشرٍ "
إنَّكم ـ أيها الآباءُ ـ لم تُقَصِّرُوا في وَاجِبِ النَّفَقَةِ على أَبنَائِكم
، لا في طَعَامٍ ولا كِسَاءٍ ، ولا مَأوًى ولا دَوَاءٍ ، رَبَّيتُمُ الأَجسَادَ
وَسمَّنتُمُ الأَجسَامَ ، أَركبتُمُوهُمُ السَّيارَاتِ ، وَملأتم جُيُوبَهُم
بِالرِّيَالاتِ ، وَأنتُم على ذلك إِذَا اقتصدتم وَتَوَسَّطتُم مَأجُورُونَ
مُثابون ، قال ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ : " أَفضَلُ دِينَارٍ يُنفِقُهُ
الرَّجُلُ دِينارٌ يُنفِقُهُ على عِيَالِهِ ، ودِينارٌ يُنفِقُهُ على
دَابَّتِهِ في سَبِيلِ اللهِ ، وَدِينارٌ يُنفِقُهُ على أَصحَابِهِ في سَبيلِ
اللهِ " رواه مسلمٌ ، وَلَه مِن حَدِيثِ أبي هُريرةَ ـ رضي اللهُ عنه ـ : "
دِينارٌ أَنفقَتَهُ في سَبيلِ اللهِ ، ودِينارٌ أنفقتَهُ في رَقَبَةٍ ،
ودِينارٌ تَصَدَّقتَ بِهِ على مِسكِينٍ ، ودِينارٌ أَنفقتَهُ على أَهلِكَ ،
أَعظَمُها أَجرًا الذي أَنفَقتَهُ على أَهلِكَ " فَأَللهَ أَللهَ في الأَهَمِّ
والأَسمى ، أَللهَ أَللهَ في الأَثبَتِ وَالأَبقَى ، أَللهَ أَللهَ في
تَربِيَةِ العُقُولِ وَإِصلاحِ القُلُوبِ ، الأَروَاحَ الأَروَاحَ فَزَكُّوها ،
القُدوَةَ القُدوَةَ فَوَفِّرُوها ، الأَخلاقَ الأَخلاقَ فَهَذِّبُوها ،
الآدَابَ الآدَابَ فَعَلِّمُوها .
يَا خَادِمَ الجِسمِ كَم تَسعَى لِخِدمَتِهِ *** أَتعَبتَ نفسَك
فِيمَا فِيهِ خُسرَانُ
أَقبِلْ عَلى الرُّوحِ فَاستَكمِلْ فَضَائِلَهَا *** فَأَنتَ بِالرُّوحِ لا
بِالجِسمِ إِنسانُ
رَبُّوا أَبنَاءَكُم قَبلَ التَّعلِيمِ ، وَأَدِّبُوهُم قَبلَ
التَّفَقُّهِ ، فَإِنَّهُ لا عِلمَ إِلاَّ بَعدَ تَربِيَةٍ حَسَنَةٍ وَأَدَبٍ
جَمٍّ ، وَهَذَا رَبُّكُم ـ جل وعلا ـ يُخاطِبُ كَلِيمَهُ مُوسَى ـ عَلَيهِ
السَّلامُ ـ فَيَقُولُ : " إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعلَيكَ إِنَّكَ
بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى . وَأَنَا اختَرتُكَ فَاستَمِعْ لِمَا يُوحَى .
إِنَّني أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعبُدْني وَأَقِمِ الصَّلاةَ
لِذِكرِي " لَقَد عَلَّمَهُ ـ سبحانَه ـ أَدَبَ المَكَانِ فَقَالَ : " اِخلَعْ
نَعلَيكَ " وَعَلَّمَهُ أَدَبَ الحدِيثِ فَقَالَ : " فَاستَمِعْ لما يُوحَى "
ثم أَوحى إِلَيهِ بِأَجَلِّ عِلمٍ وَأفضَلِ فِقهٍ ، وهو التَّوحِيدُ
والشَّرِيعَةُ فَقَالَ : " إِنَّني أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا
فَاعبُدني وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكرِي " وَهَذِهِ أُمُّ الإِمامِ مالكِ بن
ِأنسٍ ـ رحمةُ اللهِ عليه وعليها ـ لما أرادت لابنِها أَن يَطلُبَ العِلمَ
أَلبَسَتهُ أَحسَنَ الثِّيَابِ ، ثم أَدنَتهُ إِلَيها وَمَسَحَت على رأسِهِ ،
وَقَالَت : يَا بُنيَّ ، اِذهَبْ إلى مجالسِ رَبِيعَةَ ، وَاجلِسْ في مجلسِهِ ،
وَخُذْ مِن أَدَبِهِ وَوَقَارِهِ وَحِشمَتِهِ قَبلَ أَن تَأخُذَ مِن عِلمِهِ ..
فَرَحِمَهَا اللهُ مَا أَعقَلَهَا ! عَلَّمَتهُ الأَدَبَ قَبلَ أَن يجلِسَ في
مجلِسِ الطَّلَبِ . وهكذا يجِبُ أَن يَكونَ الوَالِدَانِ لابنِهِمَا ،
يُعَلِّمَانِهِ الأَدَبَ مَعَ مُعَلِّمِيهِ وفي مدرستِهِ ، لا أَن يجعلا
بَينَهُ وبَينَ ذلك سَدًّا بما يَسقِيَانِهِ مِن مَسَاوِئِ الأَخلاقِ ، أو
يُقِرَّانِهِ عليه مِن مَرذُولِ الطِّباعِ وَقَلِيلِ الأَدَبِ .
إِنَّنا إِذَا استَطَعنَا أَن نُعَلِّمَ أَبنَاءَنَا الأَدَبَ مَعَ
مُعَلِّمِيهِم ، وَأَن نَغرِسَ في قُلُوبِهِم حُبَّ كُتُبِهِم واحترامَ
مَدَارِسِهِم ، وَأن نَصِلَ بهم إلى مَعرِفَةِ قِيمَةِ كُلِّ ذلك ، فإني
كَفِيلٌ لكم بِأَن تحمَدُوا السُّرَى ، وَألاَّ تَذهَبَ جُهُودُكُم سُدًى ،
وَأَلاَّ تَشْكُوا مِن تَدَنِّي دَرَجَةٍ أَو ضَعفِ مُستَوَى ، أَمَّا حِينَ
نُقَدِّمُ لِلمَدَارِسِ طلابًا بِلا أَدَبٍ ، طلابًا لا يَعرِفُونَ قِيمَةَ مَا
هُم عَلَيهِ مُقدِمُونَ ، فَإِنما نَضَعُ بَينَ أَيدِي المُعَلِّمِينَ رَمَادًا
لا جمرَ فيه ، فَكَيفَ نُطالِبُهُم أَن يُوقِدُوا مِنهُ نَارًا ؟ وَهَل تَرَونَ
نَافِخًا في الرَّمَادِ يُوقِدُ نَارًا ؟ لا ـ واللهِ ـ وَلَو نَفَخَ طُولَ
عُمُرِهِ . إِنَّ حَالَ مُعَلِّمٍ مَعَ طالبٍ بلا أدب كَحَالِ مَن قَالَ :
لَقَد أَسمَعتَ لَو نَادَيتَ حيًّا *** وَلَكِنْ لا حَيَاةَ لمَن
تُنَادِي
وَلَو نَارًا نَفَختَ بها أَضَاءَت *** وَلَكِنْ أَنتَ تَنفُخُ في رَمَادِ
نسأل اله لأبنائنا التوفيق والسداد ، والنجاح في حاضر أمرهم ومستقبله ، إنه
جواد كريم .