|
فإنَّ كلاًّ منَّا يعلمُ مقام العالم في الإسلام ، و ما أولاه الله إياه من
سَمِيِّ المناقب ، و ما حباه من رفيع المناصب ، و ما ذاك إلا دلالةٌ واضحةٌ
بيِّنة على عِظَمِ حُرْمَتِه ، و تمام صيانته .
و لا زال احترامُ العلماءِ سائراً مسيْرَه عبر الأزمان تتناقله أنفسُ الفضلاء
الشرفاء ، و تعافه أنفس الدُنآء الوُضعاء .
فكان من تلك الأنفس أنفسُ أهل هذا الزمان الغابر المُدْبِرُ ، حيث تكالبتْ
أنفسٌ مدسوسةٌ في صف أهل الفضيلة و المنقبة فجعلوا أعراض العلماء فاكهةً لهم
يأنسون بنهشها ، و يسمرون على عظامها ، و يُنهون المجالس باللعقِ لها ، و هم
في كلِّ ذلك بين إدبارٍ عن فضيلة ، و نحو سعايةٍ لرذيلة ، اتخذوا من الآيات
أسنمةً للسبِّ و القدح ، و من السنة مناشيرَ للبتر و الذبح ، يتزعمون دعوة
المناصحة ، و ينادون برفع رايات الصدع بالحق ، و هم في الغرور سامدون ، و في
اللهو مغمورون .
فكم قد تجرَّعَ العلماءُ منهم الأذى ، و نالوا من صنائعهم الأسى ، و العذر :
لم يقلْ بما قلتُ ، بل لم يعتقد رأيي وهو الحق الذي لا يجادل فيه إلا صاحبُ
هوى .
و ما هكذا ربانا الإسلام ، و لا على الحال تركنا علماءُ الإسلام ، و لكن لا
عجبْ فأنت في زمن مدبرٍ مولٍّ ، استأسدَ فيه الفأر ، و استنسرَ فيه البُغاث .
و حتى نُوْجِدَ ضمانات للعلماء الأساطين ، و حُماةُ حِمى الدين فإنني أنثر في
الأسطرُ معالماً تستسيغها نفوس كريمة ، و تتفيؤها أرواح عظيمة ، و ليس لي
فيها سوى التسطير و التأليف .
المَعْلمُ الأول : لا عِصمةَ للعالم .
قال النبي ( صلى الله عليه و سلم
) : " كلُّ ابنُ آدمَ خطَّاء ، و خيرُ الخطائين التوابون " رواه الحاكم و
صححه .
يقولُ الإمامُ الحافظُ ابنُ عبد البرِّ _ رحمه الله _ : لا يسلمُ العالمُ من
الخطأ ، فمن أخطأ قليلاً و أصابَ كثيراً فهو العالم ، و من أصاب قليلاً و
أخطأ كثيراً فهو الجاهل . ا,هـ [ جامع بيان العلم ] .
المَعْلمُ الثاني: الحقُ هو البُغْيَةُ .
قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _ :
( وليُعْلَم انه ليس أحد من الأئمة-المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً- يتعمد
مخالفة رسول لله-صلى الله عليه وسلم- في شيء من سنة,دقيق ولا جليل .
فانهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول –صلى لله عليه وسلم-
,وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله _ صلى الله عليه
وسلم _ ) أ.هـ . [رفع الملام ص :4].
المَعْلمُ الثالث: { فتثبتوا }.
يقولُ الله _ تعالى _ : { يا أيها
الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجاهلة فتصبحوا على
ما فعلتم نادمين } .
وعلى القراءة الأخرى { فتثبتوا } .
و التثبتُ في خطأِ الشيخ من جانبين
:
الأول :
صحةُ وقوعه منه ، فإن كثيراً مما يُنْسَبُ إلى أهل العلم و الفضل من الكلامِ
اللا مقبول _ حقيقةً _ عند أهل النظر و التمحيص ، فإنه لا يخلو الكلام من
أحوالٍ ثلاثة :
الحال الأولى :
كونه واقعاً صحيحاً عنه ، فهذا يأتي الحديث عنه _ إن شاء الله _ .
الحال الثانية :
كونه مختلَقاً مكذوباً ، وما أكثر ذلك في النقل و الإسناد إلى العلماء .
الحال الثالثة :
كونه مما يُلْزَمُ به كلامُ العالم المُوْهم ، و القاعدة : أن لازم القولِ
ليس قولاً ، و لازم المذهب ليس مذهباً .
و هاتين الحالتين _ الأخيرتين _ لا يجوزُ التعويلُ عليهما إطلاقاً ، و من
ثَمَّ فلا يجوز توجيه النقد على العالم بهما ، لأنه مما يدخل تحت البُهتان و
الفِرْيَة .
الثاني :
التثبتُ من كونه خطأً في الشرع ، و هذا مما لا يستطيعُ أحدٌ أن يجزمَ به ،
قال الإمام زكريا الأنصاري _ رحمه الله _ : إياكم أن تُبادروا إلى الإنكار
على قول مجتهد أو تخطئته إلا بعد إحاطتكم بأدلة الشريعة كلها ، و معرفتكم
بمعانيها و طرقها ، فإذا أحطتم بها _ كما ذكرنا _ و لم تجدوا ذلك الأمر الذي
أنكرتموه فيها فحينئذٍ لكم الإنكارُ ، و الخيرُ لكم ، و أنى لكم بذلك ؟ .
ا,هـ .
و من الغلطِ أن ترى أُناساً من الذين عصفت بهم الغَيْرة يمنةً و يسرة يسارعون
في الحكم على العلماءِ بأنهم خالفوا أصول الإسلام ، و هدموا أعمدةَ المِلَّة
، و هدُّوا بُنيانَ الدين ، و هذا الهذرُ منهم من أقبحِ ما يكون ، و من أفحشِ
ما يصدرُ من العقلاء ، فأنى لهم بتلك الأحكام التي أصدروها ؟
رُبِّيَ كثيرٌ من الناسِ اليومَ على أن ما يقولُه أشياخهم هو الحقُّ الذي لا
مريةَ فيه ، و أن ما تعلموه في مدارسهم ، و ما تلقوه في حِلَقِ الذكر هو
الصوابُ الذي خلافهُ باطل _ يقيناً _ و هذا لا يجوزُ القولُ به ، و لا
يتفوَّه به من في قلبهِ شيءٌ من الورع و الخوف من ربه _ تعالى _ ، لأن ذلك
يلزمُ منه القولُ بالغيب و ادِّعاؤه و هذا أمره إلى الله _ تعالى _ ، و متى
هذَّبَ المرءُ نفسه على الترفُّقِ بإصدار الأحكام ، و عدم إطلاقها فهو خيرٌ
له و أزكى عند ربه و الناس .
المَعْلمُ الرابع: لا زالَ للشيخ قدرُه.
خطأُ العالمِ ليس سالباً منه
مقامه في الإسلام ، ولا نافياً عنه منقبةَ الفضيلة و العالِمية ، و إنما يبقى
عليه لباسها ، و يُحفظ له حقه في الإسلام .
قال الإمام الذهبي _ رحمه الله _ : و لو أن كلَّ مَن أخطأ في اجتهاده _ مع
صحةِ إيمانه ، و تَوَخِّيْهِ لاتباع الحق _ أهدرناه و بدَّعناه ، لقلَّ من
يسلمُ من الأئمة معنا ، رحمَ الله الجميعَ بمنه و كرمه . ا،هـ .
و لو نظرنا في كتبِ التراجُمِ لرأينا كثيراً من العلماء وَقَعَ في أخطاء
كثيرةٍ لم يُسْقَطْ مقامهم بسببها ، و لم يُحذَّر الناس منهم لأخطائهم ، و
إنما كانوا بين أنفسهم عقلاء ذوي محبةٍ وَ وِداد ، و ليتَ لنا مثلهم في هذا
الزمان السيء .
المَعْلمُ الخامس: لعله وَ لعله .
سبقَ _ في المعلم الثاني _ أن
بُغْيَةَ العالِم هو الحق ، و أن قصده الوصول إلى الصواب من الرأي ، و لكن
يعتريه الخطأ ، و يزاولُه الزلل ، و الواجبُ هنا هو أن نعتذرَ له ، و نتأولُ
خطأه باحثين عن مخرجٍ حسَنٍ لائقٍ به .
قال الإمام السُبْكي _ رحمه الله _ : فإذا كان الرجلُ مَشهوداً له بالإيمان و
الاستقامة ، فلا ينبغي أن يُحملَ كلامه ، و ألفاظه و كتاباته على غير ما
تُعُوِّدَ منه و من أمثاله ، بل ينبغي التأويل الصالح ، و حُسْنُ الظن
الواجبِ به و بأمثاله . ا،هـ .
و يقولُ ابنُ النحاس _ رحمه الله _ : يجبُ أن يُتأوَّلَ للعلماء ، و لا
يُتَأوَّلَ عليهم الخطأ العظيم ، إذا كان لما قالوه وَجه . ا،هـ .
المَعْلمُ السادس: تَجَنَّبْ زلة العالم .
إذا ثَبتَ لنا _ يقيناً _ أن
العالمَ أخطأ في شيءٍ و لم يكُنْ ثَمَّةَ وَجهُ صِحةٍ يَعتذرُ له به فإنه لا
يجوزُ لأحد أن يسلك طريقه في زلته ، للعلمِ بأنها زلةٌ و خطأٌ منه .
قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _ : و ليس لأحد أن يتبعَ زلات العلماء ، كما ليس
له أن يتكلمَ في أهل العلم و الإيمان بما هم ليسوا به بأهل ، ... ، و هذا
أمرٌ واجبٌ على المسلمين في كلِّ ما يُشْبِه هذا من الأمور . ا،هـ .
المَعْلمُ السابع: مُناصحةُ الشيخ .
إذا تمَّ كثيرٌ مما سبق _ من
المعالم _ فإننا نسلُك درب المناصحة للشيخ بأدبٍ جَمٍّ ، و خُلُقٍ عظيمٍ ،
دون تنقُصٍ و تعيير ، و دون إساءة أدبٍ .
ولابدَّ من مناصحةِ الشيخ في خطأه
من لزوم أدبين :
الأول :
مُلاطفةُ الشيخ في بيان الخطأ و الزلل
، فإن لها أثراً كبيراً في نفس الشيخ و قبوله لها ، و أثرٌ على الناصحِ حيثُ
عرفَ للعلم قدره و مكانه .
قال الإمام ابنُ جماعة _ رحمه الله _ : و لا يقول لما رآه الشيخُ و كان خطأً
: هذا خطأ ، و لا : هذا ليس برأي ، بل يُحسنُ خطابه في الرد إلى الصواب ،
كقوله : يظهرُ أن المصلحةَ في كذا ، و لا يقول : الرأي عندي كذا ، و شِبْهَ
ذلك . ا،هـ .
الثاني :
الإسرارُ في النُصْح ، و أحقُّ الناسِ بإسرارِ النصحِ له هو العالم ، لأن في
تشهيرِ النصح مفسدتين :
الأولى :
إساءةُ أدبٍ معه ، و قد يكون الصوابُ حليفَه ، و _ أيضاً _ تهوينٌ لقدره عند
العامةِ مما يُجرؤهم على انتقاصه و الإساءة إليه .
الثانية :
تشهيرٌ للخطأ و الزلّة .
قاعدة : قال الحافظُ ابنُ رجبٍ _
رحمه الله _ : و المُنْكَرُ الذي يَجبُ إنكارُه : ما كان مُجْمَعاً عليه ،
فأما المُخْتَلَفُ فيه فَمن أصحابنا من قال : لا يجبُ إنكارُه على مَنْ فعلَه
مجتهداً فيه ، أو مُقَلِّداً مجتهداً تقليداً سائغاً . ا،هـ [ جامع العلوم و
الحِكم 2/270 ، و انظر : شرح النووي على مسلم 2/23 ].
هذه معالمُ ذاتُ بالٍ ، لا يُسْتغنى عنها تُجاه زلةِ العالم و خطئه ، و
مراعاتها من أهم المهمات على المسلم حيثُ بها : صيانةُ مقامِ الشريعة من تجرؤ
السافلين على كبارها ، و محفظاً لقدرِ العالم و تقديراً له و تعظيماً بتعظيم
الدين له .
و هي كما أنت راءٍ إنما هي من منثور كلام الأئمة الأعلام ، و الفضلاء الفقهاء
تمَّ تقييدُها و رَصْفُها جمعاً لمتفرَّقها ، و لَمَّاً لشتاتها .
الاثنين _ 10/2/1424 هـ
الرياض