|
الخطبة الأولى :
فيا عباد الله : كانت البشرية تعيش في ظلام دامس ، وليل بهيم ، لعبت بعقولها
الانحرافات والخرافات ، حتى أكرما الله وأنزل عليها القرآن ، ليخرجها من
الظلمات إلى النور ، ومن الخضوع للأوثان والأصنام إلى الخضوع الكامل للواحد
الديان، وإن المتطلع اليوم في واقع كثير من الناس وسط أجواء المتغيرات
المتكاثرة ، والركام الهائل من المصائب والبلايا ، يلحظ بوضوح حاجة النفوس إلى
تحصيل ما يثبت قلوبها ، ويطفئ ظمأها ، ويجلو صداها ، وذلك كله موجود في كتاب
الله عز وجل ، ذلكم الكتاب الذي جعله الله سبحانه عمدة الملة ، وآية الرسالة،
لا طريق إلى الله سواه ، ولا سبيل إلى النجاة بغيره ، فهو سلوة الطائعين ،
ودليل السالكين ، ولذة قلوب المتقين ، كيف لا وهو كلام رب العالمين ، المنزل
على سيد المرسلين بلسان عربي مبين ، " تنزيل من حكيم عليم " .
أيها المسلمون : إذا كان الأنبياء السابقون عليهم السلام قد أوتوا من المعجزات
ما آمن عليه البشر في وقتهم ، ثم انتهت تلك المعجزات بموتهم وفناء أقوامهم ،
فإن الذي أؤتيه محمد صلى الله عليه وسلم ، كان وسيظل معجزة يدركها اللاحقون بعد
السابقين ، ويراها المتأخرون كما يراها المتقدمون ، يقول النبي صلى الله عليه
وسلم : "ما من الأنبياء نبي إلا وأعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ،
وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم
القيامة " أخرجه مسلم .
القرآن عباد لله هو المصباح الذي لا تنطفئ مصابيحه ، والمنهاج الذي لا يضل
ناهجه ، والعز الذي لا يهزم أنصاره، انزله الله في أمة تتباهى بالفصاحة والبيان
، وتتفاخر بالبلاغة وجزل الكلام فتحداهم الله جميعاً انسهم وجنهم فقال سبحانه :
" قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو
كان بعضهم لبعض ظهيرا " .
عباد الله: لقد حاول الأعداء قديماً وحديثاً العبث بالقرآن ، والتشويش في صدقه
، شككوا في تنزيله ، وطعنوا في جمعه وتدوينه ، ونالوا من قراءته وحروفه ، ثم
رجعوا في النهاية خائبين، إذ أذعن لفصاحته بلغاؤهم ، وانقاد لحكمة حكماؤهم ،
وابهر بأسراره علماؤهم ، أرسلت قريش أحسن رجالاتها ليكلم النبي صلى الله عليه
وسلم ، فجاء الوليد بن عتبة ، وكلم النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً وهو منصت ،
فقرأ عليه مطلع سورة فصلت حتى بلغ قوله تعالى : " فان اعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة
مثل صاعقة عاد وثمود " ، فامسك عتبة على فيه، وناشده الرحم ، ثم رجع إلى أهله ،
واعتزل قريش فترة ، فلما جاء قريش قال بعضهم لبعض، لقد جاءكم أبو الوليد بغير
الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك ؟ قال ورائي أني سمعت قولاً
والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالسحر ، ولا بالشعر ، ولا بالكهانة ،
قالوا : سحرك يا أبا الوليد بلسانه قال هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم ...
أتى بكتاب اعجز الخلق لفظه * فكل بليغ عذره صار أبكما
تحدى به أهل البلاغة كلهــم * فلم يفتحوا فيما يعارضه فما
حوا كل برهان على كل مطلب * ويعرف هذا كل من كان أفهما
أيها المسلمون : إن صلة الكثير من الناس بكتاب ربهم يكتنفها شيء من الهجران
والعقوق سواء في تلاوته أو تدبره أو في العمل به ، والله سبحانه وتعالى لم ينزل
كتابه ليتلى باللسان تلاوة مجردة عن التدبر والفهم ، منفصلة عن العلم والعمل ،
ولا ليكتب على لوحات وملصقات تزين بها الجدران ومداخل البيوت ومجالسها ، ولم
ينزله سبحانه ليكتب في حجب وحرز وتمائم تعلق على الأكتاف وفي الرقاب ، لتدفع
بها العين ، ويرد بها البلاء ، وما أنزل القرآن ليقرأ على الموتى والأضرحة أو
في المناحات باسم العزاء ، وما أنزل القرآن لتفتتح بها الإذاعات والقنوات ثم
يتلوه العزف والطب والغناء ، لقد أنزل الله القرآن ليقرأ وليتدبر ، وليتذكر به
من يتذكر ، : " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب "
.
أيها المسلمون: إن الله سبحانه امتدح من يتلون كتابه ووعدهم بالمزيد من فضله :
" إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية
يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله انه غفور شكور " ، فلا
تبخلوا بالأوقات على كتاب الله تعالى فهو خير لكم من حطام الدنيا التي يتنافس
البعض عليها، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم ، " أيحب
أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد ثلاث خلفات عظام سمان ؟ فقالوا : نعم ، فقال صلى
الله عليه وسلم : فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير من ثلاث خلفات عظام
سمان " أخرجه مسلم ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " أقرؤوا القرآن ، فإنكم تؤجرون عليه ، وكل حرف عشر حسنات
، أما إني لا أقول : ( ألم ) حرف ، ولكن ألف عشر ولام عشر ، وميم عشر ، فتلك
ثلاثون " أخرجه الخطيب .
يا أهل القرآن : هاهي سير بعض سلفكم وحالهم مع القرآن ، يقول عثمان بن عفان رضي
الله عنه : لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام الله ، وها هو أبو حنيفة النعمان
يصلي صلاة العشاء خلف الإمام فيقرأ الإمام: " إذا زلزلت الأرض زلزالها " فلما
قضى الإمام الصلاة وخرج الناس , نظر المؤذن إلى أبى حنيفة وهو جالس يفكر , فقلت
: أقول لا يشتغل قلبه بي فلما خرجت أنزلت القنديل , ولم يكن فيه إلا زيت قليل ,
فجئت وقد طلع الفجر وهو قائم قد اخذ بلحية نفسه , وهو يقول : يا من يجزي بمثقال
ذرة خير خيرا ، ويا من يجزي بمثقال ذرة شر شرا، أجر النعمان عبدك من النار ،
وما يقرب منها من السوء وأدخله في سعة رحمتك ، قال :فأذنت فلما دخلت قال : تريد
أن تأخذ القنديل ، قلت : قد أذنت لصلاة الغداة ، قال : أكتم علي ما رأيت ، وركع
ركعتي الفجر ، وجلس حتى أقمت الصلاة وصلى معنا الغداة على وضوء أول الليل .
يروى أن بعض فقهاء مصر دخلوا على الشافعي رحمه الله وهو في المسجد وبين يديه
المصحف ، فقال لهم الشافعي : شغلكم الفقه عن القرآن ، وإني لأصلي العتمة وأضع
المصحف بين يدي ، فما أطبقه حتى الصبح.
عباد الله : إنه بقدر ما تكشف هذه النصوص عن قدر القرآن وقيمته وصرف الهمم له
عند هؤلاء الأخيار ، فهي تكشف أيضاً عن جلدهم وطول مكثهم في تلاوته وتدبره ،
كيف لا والمشغول بالقرآن يعطى أفضل ما يعطى السائلون :
أخرج الإمام الترمذي في جامعه في الحديث القدسي يقول الرب تبارك وتعالى : " من
شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين " ..
يا حامل القرآن إن تك هكذا * فلك الهنا بفوز عقبى الدار
ومتى أضعت حدوده لن تنتفع * بحروفه وسكنت دار بوار
الخطبة الثانية :
فيا عباد الله : إن الموعظة بالقرآن لا تقتصر على جيل دون جيل ، ولا على فئة من
الناس دون أخرى ، وإن الله جعل القرآن مأدبته الأخيرة من السماء ، لم ينزله
جملة كغيره من الكتب بل نجوماً متفرقة مرتلة ما بين الآية ، والأثنتين والآيات
، والسورة والقصة ، في مدة زادت على عشرين سنة ، وذلك لتتلقاه الأمة بالحفظ ،
وليستوي في تلفقه في هذه الصورة الكليل والفطن ، والبليد والزكي ، والفارغ
والمشغول والأمي وغير الأمي ، فيكون لمن بعدهم فيهم أسوة في نقل كتاب الله
حفظاً قرناً بعد قرن وخلفاً بعد سلف .
أيها المسلمون : لقد كانت المنازل في السابق يعرف أهلها بقراءتهم لكتاب الله
يقول صلى الله عليه وسلم : أني لأعرف أصوات .الأشعريين بالليل حين يدخلون ،
وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل ، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا
بالنهار ... رواه المسلم . يقول أبو هريرة رضي الله عنه " البيت الذي يتلى فيه
كتاب الله كثر خيره ، وحضرته الملائكة ، وخرجت منه الشياطين ، والبيت الذي لا
يتلى فيه كتاب الله ضاق بأهله ، وقل خيره ، وحضرته الشياطين ، وخرجت منه
الملائكة " .
أيها المسلمون : أه على بيوت المسلمين حين تعج بالأصوات المنكرة ، والصور
الفاضحة ، وترى فيها كل شيء إلا القرآن أو ترى القرآن ولكن لا ترى عليه أثراً
للقراءة ، وكأن البركة تكفي لوجوده ولو كان مهجوراً .
كم من أناس في هذا الزمن تولعوا بالغناء والمعازف حتى لا تفارق مسامعهم هجروا
كتاب الله فلا يقرؤونه بل ولا يطيقون سماعه أحياناً .
بيوت يحيا ليلها ويقضى نهارها بسماع الغناء والمعازف ، حتى إن أصواتها لتنبعث
من وراء الجدران ، مبالغة في الجهر بالعصيان .
كم من بيوت خلت من ذكر الرحمن ، وعلا ضجيجها بمزمار الشيطان ، فانتشرت الشياطين
في أرجائها ، وتربعت في أركانها ، وجالت في قلوب أصحابها ، فحرفتهم عن سبيل
الغي والفساد ، فكثرت فيهم الأمراض النفسية ، والأحكام المزعجة .
مساكين من يمضون في قراءة الجرائد ونحوها كل يوم أضعاف ما يمضونه لقراءة القرآن
.
مساكين من يقفون على أقدامهم أو يجلسون على الأرائك بأحاديث لا منفعة من ورائها
، ثم تراهم يتضايقون حين يجلسون دقائق معدودة لقراءة القرآن .
عباد الله : عظموا كتاب ربكم واستشفوا به من أدوائكم ، واطلبوا به النصر على
أعدائكم ، وميزوا به بين أعدائكم وأصدقائكم ، ثم صلوا على نبيكم كما أمركم الله
بذلك في كتاب بركم .