|
ح 86
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم إذَا كَبَّرَ فِي الصَّلاةِ سَكَتَ هُنَيْهَةً قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ
, فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي , أَرَأَيْتَ
سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ ، مَا تَقُولُ ؟ قَالَ :
أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ
بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ . اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا
يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ . اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ
خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ .
في الحديث مسائل :
1=
لما فرغ المصنف من باب الإمامة بدأ بِصِفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن
الإمام والمأموم مُخاطَبون بأمره صلى الله عليه وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلي
. رواه البخاري .
2=
قوله : " إذَا كَبَّرَ فِي الصَّلاةِ " محمول على الصلاة الجهرية ، لأنه قال
بعدها : سَكَتَ هُنَيْهَةً قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ . ولأن الصلاة السِّريَّة
تُسرّ فيها القراءة والاستفتاح .
3=
معنى " هُنَيْهَة " أي قليلاً .
قال القاضي عياض : تصغير هَنَة ، ثم زيدت فيها هاء .
وفي القاموس المحيط : هُنَيَّة مصغرة هَنَة أصلها : هَنْوَة ، أي شيء يسير ،
ويُروى هنيهة بإبدال الياء هاء .
4=
قوله : " فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي " القائل
هو أبو هريرة رضي الله عنه ، وهو يدلّ على محبة النبي صلى الله عليه وسلم
وتوقيره ، والتّأدّب معه في الخِطاب .
ويدل على عِظم الوالدين في نفوسهم ، لأن أغلى ما عند القوم آباءهم وأمهاتهم ،
فيُفدّون النبي صلى الله عليه وسلم بأغلى ما عندهم .
وقوله : " بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي " أي فِداء لك أبي وأمّي .
5=
حرص أبي هريرة رضي الله عنه على السؤال ، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم
فقال : يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول
منك ، لِمَا رأيت من حرصك على الحديث ، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال
لا إله إلا الله خالصا من قلبه ، أو نفسه . رواه البخاري
6=
قوله : " أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ ، مَا
تَقُولُ ؟ " فيه السؤال عما يُشكل أو عما يَخفى .
وأن من طرق تحصيل العِلم السؤال ، ولذا قال مجاهد : لا يَتَعَلَّم العلم مُستحي
ولا مُستكبر .
7=
هذا الذي كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم هو دعاء الاستفتاح ، وهذه الصيغة
التي جاءت في هذا الحديث فيها الاستعاذة ، والدعاء لِحَظِّ النفس .
والصيغة الثانية ، وهي :
سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك . رواه مسلم .
فهذه الصيغة فيها تعظيم لله تعالى .
وهناك صِيَغ أخرى ، منها :
ففي حديث عليّ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام
إلى الصلاة قال : وَجَّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من
المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له ، وبذلك
أمرت وأنا من المسلمين . رواه مسلم .
وفي رواية له : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة كَـبَّر ثم
قال : وَجَّهتُ وجهي ، وقال: وأنا أول المسلمين .
وقد سأل أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : بأي
شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل ؟ قالت :
كان إذا قام من الليل افتتح صلاته : اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر
السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه
يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم
. رواه مسلم .
8=
حُكم هذا الدعـاء .
هو سُـنّـة ، فمن أتى به فقد أحسن ، ومن تركه فليس بآثم ، إلا أن الأكمل أن
يأتي به الْمُصلِّي في الفريضة والنافلة .
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله في الفريضة والنافلة .
ويُنوِّع الْمُصلِّي بين الأنواع السابقة .
9=
لا يُشرع الاستفتاح لِمَنْ كَـبَّـر خلف الإمام في الجهرية ، والإمام يقرأ .
بل يُكبِّر ويُنصت ، لأنه مأمور بالإنصات ، لقوله عليه الصلاة والسلام " وإذا
قرأ فأنصتوا " .
10=
خصّ الثوب الأبيض دون غيره ، لأنه يظهر عليه أثر إزالة الدّنَس . والدَّنَس هو
الوسخ .
11=
قوله : " اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ
وَالْبَرَدِ " لماذا ذَكَر الثلج والبَرَد بعد ذِكر الماء ؟
قال ابن القيم رحمه الله :
سألت شيخ الإسلام عن معنى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم طهرني من
خطاياي بالماء والثلج والبرد
كيف يُطهر الخطايا بذلك ؟ وما فائدة التخصيص بذلك ؟ وقوله في لفظ آخر: " والماء
البارد " والحارّ أبلغ في الانقاء ؟
فقال : الخطايا توجب للقلب حرارة ونجاسة وضَعْفَـاً ، فيرتخي القلب وتضطرم فيه
نار الشهوة وتنجّسه ، فإن الخطايا والذنوب له بمنـزلة الحطب الذي يُمِد النار
ويوقدها ، ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب وضعفه ، والماء يغسل الخبث
ويطفئ النار ، فإن كان بارداً أورث الجسم صلابة وقوة ، فإن كان معه ثلج وبَرَد
كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدته ، فكان أذهب لأثر الخطايا .
هذا معنى كلامه ، وهو يحتاج إلى مزيد بيان وشرح .
فاعلم أن ههنا أربعة أمور : أمران حسيّان ، وأمران معنويان . فالنجاسة التي
تـزول بالماء هي ومزيلها حسيان ، وأثر الخطايا التي تـزول بالتوبة والاستغفار
هي ومزيلها معنويان . وصلاح القلب وحياته ونعيمه لا يتم إلا بهذا وهذا . اهـ .
والله تعالى أعلم .