شرح الحديث الـ 40
عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا
معتزلا لم يُصلِّ في القوم ، فقال : يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم ؟ فقال
: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء . فقال : عليك بالصعيد ، فإنه يكفيك .
في الحديث مسائل :
1 = في الحديث قصة طويلة .
فقد روى البخاري ومسلم عن عمران بن
حصين رضي الله عنه قال : كنت مع نبي الله صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ له ،
فأدلجنا ليلتنا حتى إذا كان في وجه الصبح عرّسنا ، فغلبتنا أعيننا حتى بزغت
الشمس . فكان أول من استيقظ منا أبو بكر وكُنا لا نوقظ نبي الله صلى الله
عليه وسلم من منامه إذا نام حتى يستيقظ ، ثم استيقظ عمر ، فقام عند نبي الله
صلى الله عليه وسلم فجعل يُكبِّر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فلما رفع رأسه ورأى الشمس قد بزغت قال : ارتحلوا فسار
بنا حتى إذا ابيضّت الشمس نزل فصلى بنا الغداة ، فاعتزل رجل من القوم لم
يُصلِّ معنا ، فلما انصرف قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا فلان ما
منعك أن تصلي معنا ؟ قال : يا نبي الله أصابتني جنابة ، فأمره رسول الله صلى
الله عليه وسلم فتيمم بالصعيد فصلى ، ثم عجلني في ركب بين يديه نطلب الماء
وقد عطشنا عطشا شديدا فبينما نحن نسير إذا نحن بامرأة سادلة رجليها بين
مزادتين ، فقلنا لها : أين الماء ؟ قالت : أيهاه أيهاه ! لا ماء لكم . قلنا :
فكم بين أهلك وبين الماء ؟ قالت : مسيرة يوم وليلة . قلنا : انطلقي إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم . قالت : وما رسول الله ؟ فلم نملكها من أمرها شيئا
حتى انطلقنا بها فاستقبلنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألها
فأخبرته مثل الذي أخبرتنا وأخبرته أنها مُوتمة لها صبيان أيتام ، فأمر
براويتها فأنيخت ، فمَجّ في العزلاوين العلياوين ، ثم بعث براويتها فشربنا
ونحن أربعون رجلا عطاش حتى روينا وملأنا كل قربة معنا وإداوة ، وغسلنا صاحبنا
غير أنا لم نَسْق بعيراً وهي تكاد تنضرج من الماء يعني المزادتين ، ثم قال :
هاتوا ما كان عندكم ، فجمعنا لها من كسر وتمر وصَرّ لها صُرة ، فقال لها :
اذهبي فأطعمي هذا عيالك واعلمي أنا لم نرزأ من مائك ، فلما أتت أهلها قالت :
لقد لقيت أسحر البشر ، أو إنه لنبي كما زعم ، كان من أمره ذيت وذيت ، فهدى
الله ذاك الصِّرم بتلك المرأة ، فأسلمت وأسلموا .
وفي رواية للبخاري : فأتت أهلها وقد احتبست عنهم قالوا : ما حبسك يا فلانة ؟
قالت : العجب ! لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الذي يُقال له الصابئ ، ففعل
كذا وكذا ، فو الله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه - وقالت بإصبعيها الوسطى
والسبابة فرفعتهما إلى السماء تعني السماء والأرض - أو إنه لرسول الله حقاً ،
فكان المسلمون بعد ذلك يُغيرون على من حولها من المشركين ولا يصيبون الصِّرم
الذي هي منه ، فقالت يوما لقومها : ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً ،
فهل لكم في الإسلام ، فأطاعوها فدخلوا في الإسلام .
وفي رواية له عن عمران قال : كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم وإنا
أسرينا حتى كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ، ولا وقعة أحلى عند المسافر منها ،
فما أيقظنا إلا حرّ الشمس ، وكان أول من استيقظ فلان ثم فلان ثم فلان ، ثم
عمر بن الخطاب الرابع وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام لم يوقظ حتى
يكون هو يستيقظ ؛ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه ، فلما استيقظ عمر ورأى ما
أصاب الناس ، وكان رجلا جليداً ، فكبر ورفع صوته بالتكبير فما زال يكبر ويرفع
صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما استيقظ شكوا
إليه الذي أصابهم . قال : لا ضير أو لا يضير ، ارتحلوا ، فارتحل فسار غير
بعيد ، ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ ونودي بالصلاة فصلى بالناس ، فلما انفتل من
صلاته إذا هو برجل معتزل لم يُصل مع القوم قال : ما منعك يا فلان أن تصلي مع
القوم ؟ قال : أصابتني جنابة ولا ماء ؟ قال : عليك بالصعيد فإنه يكفيك .
2 = اعتزال الرجل للصلاة
، لجهله بالحكم ، أي أنه يجوز للجنب
أن يتيمم .
فقوله : أصابتني جنابة ولا ماء ، يدل على أنه كان يظن أنه لا يرفع الجنابة
سوى الماء .
ويظهر من إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم له أنه يعرف صفة تيمم وحكمه .
3 = سؤال النبي صلى الله عليه وسلم
للرجل قبل المعاتبة
فيه الاستفصال قبل العتاب ، وتقدمت
الإشارة إليه في شرح الحديث الـ 31
وسبقت الإشارة إلى بعض الأمثلة .
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يُبادره بالعتاب أو التعنيف بل سأله قبل
واستفصل منه .
4 = قوله
" عليك بالصعيد " أي الزم الصعيد
وتيمم به حتى في حالة الجنابة فإنه يكفيك .
ويدل عليه ما في رواية البخاري الأخرى : فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم
فتيمم بالصعيد .
5 = إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم
له أن يتيمم بالصعيد وأنه يكفيه فيه دليل على أن الحدث الأصغر يندرج تحت
الحدث الأكبر ، ولذا يكتفي من أصابته الجنابة بالتيمم مرة واحدة ثم يُصلّي
بذلك التيمم ، أي أنه لا يحتاج إلى أن يتيمم مرة للجنابة ومرة للوضوء .
وإنما يكفي أن يتيمم للجنابة وينوي به رفع الحدث الأكبر حتى يجد الماء أو
يقدر على استعماله .
6 = الصعيد الطيب وضوء المسلم وطهوره
ما لم يجد الماء
لقوله عليه الصلاة والسلام : الصعيد
الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته
. رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي .
وبناء عليه فإنه لا يتيمم لكل صلاة ، بل إذا تيمم صلى ما شاء من النوافل
والفرائض حتى يُحدث ، فالبدل له حُكم المبدل ، والصحيح أنه لا ينقض التيمم
إلا ما ينقض الوضوء .
7 = ما المقصود بالصعيد ؟
اختُلف في معنى الصعيد على أقوال :
- الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا غراس .
- الأرض المستوية .
- الصعيد التراب .
- وجه الأرض ذات التراب والغبار .
ذكر هذه الأقوال ابن جرير الطبري في التفسير ثم قال : وأولى ذلك بالصواب قول
من قال : هو وجه الأرض الخالية من النبات والغروس والبناء المستوية .
8 = مجموع هذه الأحاديث يدلّ
على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على طلب الماء والتماسه له حتى بعث بعض
أصحابه يطلبون الماء .
وهذا ليس من التكلّف بل هو موافق لقوله تبارك وتعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ
مَا اسْتَطَعْتُمْ ) .
|