|
امتنّ الله تبارك وتعالى على نبيِّـه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم ، فقال في
مَعرِض امتنانه عليه : (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ
لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) .
ولما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : قد غَفَرَ الله لك ما تَقدّم من ذنبك وما
تأخَّـر ، قال : أفلا أكون عبدا شكورا ؟ رواه البخاري ومسلم .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العبادة في أوقات دون أوقات ، فيجتهد
في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها .
وقد استوقفتني بعض أحواله صلى الله عليه وسلم مما لم تكن في أوقات اجتهاده ، بل
هي من عامة أيامه صلى الله عليه وسلم .
أما الموقف الأول فيََرْوِيه حذيفة رضي الله عنه :
قال رضي الله عنه : صلَّيت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فافتتح
البقرة ، فقلت : يَركع عند المائة ، ثم مضى ، فقلت : يُصلي بها في ركعة ، فمضى
، فقلت : يركع بها ، ثم افتتح النساء فقرأها ، ثم افتتح آل عمران فقرأها ، يقرأ
مُترسِّلا ، إذا مَـرّ بآية فيها تسبيح سبّح ، وإذا مَـرّ بسؤال سأل ، وإذا
مَـرّ بتعوّذ تعوّذ ، ثم رَكَع ، فَجَعَلَ يقول : سبحان ربي العظيم ، فكان
ركوعه نحواً من قيامه ، ثم قال : سمع الله لمن حمده ، ثم قام طويلا قريبا مما
رَكَع ، ثم سجد ، فقال : سبحان ربي الأعلى ، فكان سجوده قريبا من قيامه . رواه
مسلم .
هذه ليلة ليست من ليالي الاجتهاد ، ولا من ليالي إحياء الليل ، وشـدّ المئزر ،
وإيقاظ الأهل ، بل هي ليلة من عامة الليالي ، قام فيها النبي صلى الله عليه
وسلم فقرأ ما يزيد على خمسة أجزاء ، قراءة متأنِّـيَـة مترسّلة ، يقف عند آيات
الرحمة فيسأل ، وعند آيات العذاب فيتعوّذ ، ثم يركع بمثل هذا القَدْر من القيام
، ثم يقوم طويلاً مثل ذلك ، ويسجد مثل ذلك !
ونحن إذا اجتهدنا في قيام رمضان وقرأ الإمام جُزءاً رأينا أنه قد أطال ، ولو
كان ذلك في ليالي العَشْر !
ولعلنا نتساءل :
إذا كان هذا قيامه صلى الله عليه وسلم في ليلة من ليالي العام ،
فكيف به إذا اجتهد ؟
وكيف به إذا شـدّ المئزر ، وأيقظ أهله ،
وأحْيـَا لَـيْـلَـه ؟
وأما الموقف الثاني :
فهو متعلق بأحاديث الاستغفار
تأملتُ في استغفاره صلى الله عليه وسلم ، وهو مَنْ غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه
وما تأخّـر .
وكيف كان استغفار من غُفِر له ؟
روى الإمام مسلم من حديث الأغر المزني - وكانت له صُحبة - أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : إنه لَيُغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة
مرة .
قال النووي : والمراد هنا ما يتغشّى القلب . قال القاضي : قيل : المراد
الفَتَرات والغَفَلات عن الذِّكْر الذي كان شأنه الدوام عليه ، فإذا فَتَرَ عنه
أو غَفَلَ عَـدّ ذلك ذنبا ، واستغفر منه . اهـ .
وفي حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس
توبوا إلى الله ، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة . رواه مسلم .
وفي رواية : إنْ كُـنّـا لَـنَعُـدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس
الواحد مائة مرة : رب اغفر لي وتُبْ عليّ إنك أنت التواب الرحيم . رواه الإمام
أحمد وأبو داود وابن ماجه .
وفي حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : والله إني
لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة . رواه البخاري .
فهذا ما يُعـدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس واحد ، وفي يوم واحد ،
وهو الذي غُفِر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّـر .
فكيف بنا نحن الذين نُخطئ بالليل
والنهار ؟!
فهل قُلنا في سَنةٍ واحدة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس واحد ؟ أو
في يوم واحد ؟
وهل فَعَلْنَا في سَنَةٍ واحدة ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة
؟
ونحن الذين غرقنا في أوحال الخطايا
ونحن الذين تمادينا في العَصيان
ونحن الذين قصّرنا في جنب الله
فنحن أولى بِالاستغفار
فيا رب :
يارب إن عظمت ذنوبي كثرة = فلقد علمت بأن عفوك
أعظمُ
أدعوك ربي كما أمرت تضرعا = فإذا رددت يدي فمن ذا يَرحمُ
إن كان لا يرجوك إلا محسن = فمن الذي يرجو المسيء المجرِمُ
مالي إليك وسيلة إلا الرّجا = وجميل عفـوك ثم أني مُسلـمُ
ويا رب :
قد أسأنا كل الإساءة فاللهم = صَفْحاً عنّا وغفرا
وعفوا
البلد الأمين
الأحد 8 / 6 / 1425هـ .