|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله
وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فتعجب من بعض
الصالحين ممن لا يعتنون بصبغ شعورهم، مع كثرة الأحاديث الآمرة بتغيير
الشيب، وصحتها، وعمل الصحابة والتابعين، والأئمة والصالحين على مر الدهور
ومختلف العصور.
وبالنظر في
السنة النبوية، نلحظ أنه شرع للمسلم تغيير الشيب لسببين:
الأول: مخالفة الكفرة من المجوس واليهود
والنصارى،
الثاني: التجمل بتغيير لون الشيب.
وفيما يأتي توضيح ذلك.
المطلب الأول: مشروعية صبغ الشعر:
شرع للمسلم
تغيير الشيب لسببين:
الأول:
مخالفة الكفرة من المجوس واليهود والنصارى، ودليل ذلك حديث أبي هريرة
رضي الله عنه قال : قال النبي
ﷺ: " إنَّ اليهود والنصارى لا يصبغون
فخالفوهم " . رواه البخاري ( 3275 ) ومسلم ( 2103 ).
وفي حديث
أبي أمامة رضي الله
عنه قال : يا معشر الأنصار حمِّروا وصفِّروا وخالفوا الأعاجم .
رواه أحمد (21780) . والحديث : حسَّن إسناده الحافظ ابن حجر في " الفتح " (
10 / 354 ) .
الثاني:
التجمل، لحديث : " قال رسول الله ﷺ لما
رأى رأسه كأنها الثغامة بياضاً غيِّروا هذا .. " . رواه مسلم ( 2102 ) .
قال النووي
رحمه الله تعالى :
" أما
الثَّغَامَة ... قال أبو عبيد : هو نبت أبيض الزهر والثمر ، شبه بياض الشيب
به ، وقال ابن الأعرابي: شجرة تبيض كأنها الملح .
وأما أَبُو
قُحَافَةَ ... واسمه عثمان ، فهو والد أبي بكر الصديق ، أسلم يوم فتح مكة
".
انتهى من "
شرح صحيح مسلم " ( 14 / 79 – 80 ) .
ومع قلة شيب
النبي ﷺ فقد ثبت عنه
ﷺ أنه كان يصبغه بالحناء والكتم، فقد
روى البخاري برقم : 5897 - عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: دخلت على أم
سلمة رضي الله عنها فأخرجت إلينا شعرا
من شعر النبي ﷺ مخضوبا وقال لنا أبو
نعيم: حدثنا نصير بن أبي الأشعث، عن ابن موهب : أن أم سلمة أرته شعر النبي
ﷺ أحمر.
وفي مسند
أحمد عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه:
أنه شهد النبي ﷺ عند المنحر هو
ورجل من الأنصار، فقسم رسول الله ﷺ
ضحايا، فلم يصبه ولا صاحبه شيء، وحلق رأسه في ثوبه، فأعطاه وقسم منه على
رجال، وقلم أظفاره، فأعطاه صاحبه، فإن شعره عندنا لمخضوب بالحناء والكتم.
أخرجه أحمد (16475)، وابن خزيمة (2931)، وسنده صحيح.
وفي المسند
برقم 17500 عن أبي رمثة رضي الله عنه ،
قال: كان النبي ﷺ يخضب بالحناء والكتم،
وكان شعره يبلغ كتفيه أو منكبيه.
وقد وردت
السنة بتغيير الشيب بالحناء والكتم، وبالزعفران والورس، وفيما يأتي بيان
ذلك.
المطلب الثاني: تغيير الشيب بالحناء والكتم،
ودليل ذلك
حديث عثمان بن عبد الله بن وهب قال : دخلنا على أم سلمة
رضي الله عنها فأخرجت إلينا شعراً من
شعر رسول الله ﷺ مخضوباً ( أحمر ) .
رواه البخاري ( 5558 ) زاد ابن ماجه ( 3623 ) وأحمد ( 25995 ) : "
بالحناء والكتم".
و صح عن أبي ذر
رضي الله عنه قال: قال
ﷺ: إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء
والكتم. رواه الترمذي ( 1753 ) وأبو داود ( 4205 ) وابن ماجه ( 3622 )،
والنسائي (5077 ). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقد خضب أبو بكر
رضي الله عنه بالحناء والكتم. كما في
صحيح البخاري (3920) ومسلم (2341) ، وكذا عمر
رضي الله عنه كما في صحيح مسلم (2341)، وكذا محمد بن الحنفية ، وهو
ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما
رواه عنه ابن أبي شيبة (8/245)
قال ابن حجر :
والكتم نبات باليمن يخرج الصبغ أسود
يميل إلى الحمرة وصبغ الحناء أحمر فالصبغ بهما معا يخرج بين السواد والحمرة
. " فتح الباري " ( 10 / 355 ) .
المطلب الثالث: تغيير الشيب بالورس والزعفران:
ودليل ذلك ما
رواه أحمد برقم15882عن أبي مالك الأشجعي، قال: سمعت أبي
رضي الله عنه وسألته فقال: كان خضابنا
مع رسول الله ﷺ الورس والزعفران)).
وصححه الأرناؤوط.
وروى داود
(4211) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال
: " مر على النبي ﷺ رجل قد خضب بالحناء
، فقال: ما أحسن هذا. قال فمر آخر قد خضب بالحناء والكتم ، فقال: هذا
أحسن من هذا . ثم مر آخر قد خضب بالصفرة ، فقال: هذا أحسن من هذا كله "
والحديث قال عنه الألباني في مشكاة المصابيح: جيد.
وثبت عن
عثمان الخضاب بالصفرة ، فقال ابن أبي شيبة (8/252) : حَدَّثَنَا يَزِيدُ
بْنُ هَارُونَ ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
سَعْدٍ ، قَالَ : رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَهُوَ يَبْنِي
الزَّوْرَاءَ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ مُصَفِّرًا لِحْيَتَه ُ. وهذا إسناد
صحيح .
وروى الطبري
أيضا (836) عَن سوَادة بن حَنْظَلَة قَالَ: " رَأَيْت عليا أصفر اللِّحْيَة
".
وروى الطبري (853) عَن عبد الْملك بن
عُمَيْر، قَالَ: " رَأَيْت الْمُغيرَة بن شُعْبَة يخضب بالصفرة ".. وروى
الطبري أيضا (854) عَن عبد الْملك قَالَ : " رَأَيْت جرير بن عبد الله
البَجلِيّ والمغيرة بن شُعْبَة يصبغان لحاهما بالصفرة ".
وقد روى الطبري (846 ) وابن أبي شيبة
(8/250) بإسناد صحيح عن عبد الْملك بن أبي سليمان عَن عَطاء، قَالَ : "
سَأَلته عَن الخضاب بِالسَّوَادِ؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْت أحدا من أَصْحَاب
النَّبِي ﷺ َ يخضب بِالسَّوَادِ ،
إِنَّمَا كَانَ خضابهم بِالْحِنَّاءِ ، وَهَذِه الصُّفْرَة " .
ولفظ ابن أبي شيبة : عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ ، قَالَ : سُئِلَ عَطَاءٌ ، عَنِ الْخِضَابِ بِالْوَسْمَةِ
فَقَالَ : " هُوَ مِمَّا أَحْدَثَ النَّاسُ ، قَدْ رَأَيْت نَفَرًا مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَمَا
رَأَيْت أَحَدًا مِنْهُمْ يَخْتَضِبُ بِالْوَسْمَةِ ، مَا كَانُوا
يُخَضِّبُونَ إلاَّ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ وَهَذِهِ الصُّفْرَةِ " .
وأورد تغيير
الشيب بغير السواد ابن أبي شيبة في "مصنفه" (8/244- 253) والطبري في
"تهذيبه" (843-853) عن جابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وسهل بن سعد وأنس بن
مالك وأبي أمامة وابن أبي أوفى وعبد الله بن بسر وابن عمر وأبي هريرة
وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم . ومن
التابعين : أبو وائل وأبو الجوزاء وأبو نضرة وقيس بن أبي حازم وشبيل بن عوف
والقاسم وزيد بن وهب وطاووس وغيرهم رحمهم الله .
المطلب الرابع: حكم صبغ الشعر بالحناء أو الزعفران
قال ابن قدامة
رحمه الله تعالى :
" ويستحبّ خِضاب الشّيب بغير السّواد ،
قال أحمد : إنّي لأرى الشّيخ المخضوب فأفرح به . وذَاكَر رجلا ، فقال: لِمَ
لا تختضب ؟ فقال: أستحي . قَال: سبحان اللّه ، سنّة رسول اللّه -
ﷺ - ! " انتهى من " المغني " ( 1 / 125
) ، وينظر : " كفاية الطالب الرباني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني " (4
/ 334 ).
وقال النووي
رحمه الله: " ومذهبنا – أي الشافعي -
استحباب خضاب الشيب للرجل والمرأة بصفرة أو حمرة " . "شرح صحيح مسلم" ( 14
/ 80 ) .
وفي " الموسوعة الفقهية " (2/280): "
يستحب الاختضاب بالحناء والكتم ؛ لحديث: ( غيروا الشيب )، فهو أمر، وهو
للاستحباب، وورد عنه ﷺ: ( إن أحسن ما
غيرتم به الشيب الحناء والكتم )، فإنه يدل على أن الحناء والكتم من أحسن
الصباغات التي يغير بها الشيب، وأن الصبغ غير مقصور عليهما، بل يشاركهما
غيرهما من الصباغات في أصل الحسن ؛ لما ورد من حديث أنس
رضي الله عنه قال: ( اختضب أبو بكر
بالحناء والكتم، واختضب عمر بالحناء بحتاً ) ".
وفي " الموسوعة الفقهية الكويتية " ( 2
/ 281 ) : " اتفق الفقهاء على أن تغيير الشيب بالحناء أو نحوه : مستحب
للمرأة ، كما هو مستحب للرجل " .
المطلب الخامس: حكم ترك الصبغ خوفا من الشهرة
قال الحافظ ابن حجر
رحمه الله في حديثه عن الخضاب ـ يعني:
بالحِنَّاء ـ وخلاف السلف فيه: " الْخِضَاب مُطْلَقًا أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ
فِيهِ اِمْتِثَال الْأَمْر فِي مُخَالَفَة أَهْل الْكِتَاب، وَفِيهِ
صِيَانَة الشَّعْر عَنْ تَعَلُّق الْغُبَار وَغَيْره بِهِ، إِلَّا إِنْ
كَانَ مِنْ عَادَة أَهْل الْبَلَد تَرْك الصَّبْغ، وَأَنَّ الَّذِي
يَنْفَرِد بِدُونِهِمْ بِذَلِكَ يَصِير فِي مَقَام الشُّهْرَة: فَالتَّرْك
فِي حَقّه أَوْلَى " "فتح الباري" (10/367-368).
المطلب السادس: فوائد الحناء لفروة الرأس
فوائد الحناء لفروة الرأس:
1)
.تنظيم إفراز الدهون (الزهم)،
فهو مفيد للشعر الدهني، ويساعد في امتصاص الدهون الزائدة من فروة الرأس
2)
مضادة للبكتيريا
والفطريات، لما في الحناء من خصائص مطهرة ومضادة للميكروبات، فهو يقلل
القشرة والحكة
3)
تهدئة فروة الرأس
المتهيجة، وخاصة بعد التعرض لأشعة الشمس أو مستحضرات كيميائية قوية
4)
تحفيز نمو الشعر وتقوية
الجذور
5)
تبريد طبيعي لفروة الرأس
المطلب السابع: كراهة الصبغ بالسواد
في " عون
المعبود شرح سنن أبي داود " ( 11 / 266 ) : " ذهب أكثر العلماء إلى كراهة
الخضاب بالسواد ".
وفي "
الموسوعة الفقهية الكويتية " ( 2 / 280 ) : " اختلف الفقهاء في حكم
الاختضاب بالسّواد: الحنابلة والمالكيّة والحنفيّة - ما عدا أبا يوسف -
يقولون: بكراهة الاختضاب بالسّواد في غير الحرب " .
وأجازه بعض
الحنفية ، واختيار أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، واختاره جماعة من التابعين
منهم ابن سيرين، وأبو سلمة، ونافع بن جبير، وموسى بن طلحة، وإبراهيم النخعي،
بل نسب إلى بعض الصحابة. "موسوعة أحكام الطهارة" للشيخ أبي عمر الدبيان (3/
410).
وفي " حاشية
العدوي " في الفقه المالكي ( 4 / 333 ) :
" ( أما في البيع فيحرم ) أي : لأنه تدليس ... كما لو باع عبدا وسوّد لحيته
للونها الأبيض ، وكذا مريد نكاح امرأة فيصبغ شعر لحيته الأبيض .
والحاصل : كما يفيده زروق عن بعضهم : أنه إذا كان للتغرير : حَرُم ... "
انتهى.
وفي كتاب " مطالب أولي النهى " من كتب الحنابلة ( 1 / 89 ) : " وكره (
تغييره ) أي : الشيب ( بسواد ) في غير حرب ، ( وحرُم ) لتدليس " انتهى .
ودليل تحريم
الصبغ بالسواد للتدليس قول النبي ﷺ
قال: مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي رواه مسلم (102).
ودليل
الكراهة لغير التدليس حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : " أُتِيَ
بِأَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ، وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ
كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
ﷺ : (غَيِّرُوا هَذَا بشيء ،
وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ ) رواه مسلم ( 2102).
وعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
: ( يَكُونُ قَوْمٌ يَخْضِبُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِالسَّوَادِ ،
كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ ، لَا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ) رواه أبو
داود (4212 ) ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" وإسناده قوي ، إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه ، وعلى تقدير ترجيح وقفه ،
فمثله لا يقال بالرأي ، فحكمه الرفع " " فتح الباري " ( 6 / 499 ) .
وفي " عون
المعبود شرح سنن أبي داود " ( 11 / 266 ) : " ( يَخْضِبُونَ ) : أي يغيرون
الشعر الأبيض من الشيب الواقع في الرأس واللحية ( بِالسَّوَادِ) : أي
باللون الأسود ( كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ ) : أي كصدورها فإنها سود غالبا
وأصل الحوصلة المعدة والمراد هنا صدره الأسود " .
ولعل شيباننا
أن يطبقوا هذه السنة، وخير الهدي هدي محمد ﷺ.
نسأل الله
للجميع الهدى والسداد، والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله وسلم على نبينا
محمد.